العلاقة السورية- الأميركية بين الثابت والممنوع.. هل يُصلح ترامب ما أفسده زمن «الربيع العربي»؟
بقلم: فراس عزيز ديب
في وقت نرى فيهِ الحديث يتصاعد عن الأزمات الأميركية واقتراب أفول العصر الأميركي بما فيه عصر الدولار الذي صنع هذه الإمبراطورية الضخمة، فإننا نرى الحديث عن التعيينات التي يقوم بها الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب تتصدر وسائل الإعلام في قارات العالم أجمع، حيث تحوز هذه التعيينات على اهتمامٍ غير مسبوق نظراً لخطورة المرحلة الراهنة بما فيها الحروب المشتعلة في كل من أوكرانيا والشرق الأوسط.
في الحقيقة تبدو هذه المفارقة هي درس لمن لا يريد أن يتعاطى بواقعية مع الحالة الأميركية ووجودها كقوة عظمى لم يحن الوقت بعد لمجرد الحديث عن أفولها، ويبقى غارقاً في الشعارات والوهم الذي تبدو نهايتها لا يُحمد عقباها، وإن كنا قد حددنا من خلال زاوية الأسبوع الماضي المتضررين الثلاثة من انتخاب دونالد ترامب لأربع سنوات قادمة، فإنه من المفيد اليوم الحديث عما يمكن أن يتبدل أو يتغير في الملف الأهم بالنسبة لنا وهو الملف السوري.
مبدئياً من المفيد التذكير بأن الثوابت السورية التي تربينا عليها في ملفات التعاطي والعلاقة مع الدول ذات النفوذ الكبير، تنبثق من مبدأ الاحترام المتبادل أولاً وأخيراً، بمعزلٍ من يحكم ومن يغادر كرسي الحكم في هذا البلد أو ذاك، لذلك لا تبدو سورية وقد اكترثت يوماً بمن يفوز بانتخابات هذا البلد أو ذاك ولا حتى الدعاية الانتخابية لهذا المرشح أو ذاك، لأنها تدرك بأن الخطابات الحماسية التي تُداعب عواطف الناخبين لا معنى لها في التجربة الواقعية، الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند قال يوماً بأحد خطاباته الانتخابية قبيل ترشحه بأنه لا يمكن له أن يصافح من سماهم «ديكتاتورات النفط»، مع ذلك كانت أول زيارة له إلى العاصمة القطرية الدوحة، ونسج علاقات قوية مع الدول الخليجية بما فيهم المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، بمعنى أن الأداء العملي والتعاطي المباشر هو ما يحدد وجهة النظرة السورية وليس الخطابات.
في الحالة الأميركية، لا يبدو بأن سورية قد بدلت هذا التعاطي يوماً سواء أكان الرئيس جمهورياً أم ديمقراطياً فالنتيجة واحدة، فالثوابت السورية حيال العلاقة مع الولايات المتحدة لم تتبدل يوماً ولم تتغير، وهذه الثوابت يمكننا حصرها بما يلي:
أولاً: لم تتعاطَ سورية يوماً مع الجانب الأميركي كعدو، ولا حتى كخصم يجب لي ذراعهِ حتى ما قبل لوثة «الربيع العربي»، وإن كانت هذه العلاقة لم توصف يوماً بالحارة، إلا أنها كانت تسير بمسار طبيعي تعترف من خلاله الولايات المتحدة باستقلالية القرار السوري ووحدة الأراضي السورية بما فيها الجولان السوري المحتل، ومع انطلاق عملية السلام في الشرق الأوسط كان الجانب السوري يتعاطى مع الجانب الأميركي كوسيط يمكن الوثوق به، بل إن العلاقة ذهبت أبعد من ذلك في عهد الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون الذي زار دمشق في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد وكان قاب قوسين أو أدنى بتحقيق مساعيه لإتمام عملية السلام بين سورية وإسرائيل بما فيها ما حُكي يوماً عن «وديعة رابين» وهو رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق الذي دفع حياته ثمناً لإمكانية التنازل عن الجولان وإعادته للسوريين على يد متطرف صهيوني، أي إن تاريخ العلاقة بين البلدين فيهِ من الخطوط العريضة ما يمكن إعادة البناء عليها.
ثانياً: لم ترفع سورية يوماً شعارات التهديد لمصالح الولايات المتحدة من قريب ولا من بعيد، بل يمكننا القول إن هذا التعاطي السوري النبيل يشمل الولايات المتحدة وغيرها، فهل سبق أن سمع أحد عن تورط سوري بتفجيرات أو دعم انقلابات أو تدخل في الشؤون السياسية للدول، إطلاقاً، هذه الميزة التي تتمتع بها الدبلوماسية السورية والطريقة التي تقود فيها مؤسسة الرئاسة في سورية علاقاتها مع الآخرين، وهو ما كانت قد عبرت عنه المرشحة الحالية لتولي منصب مديرة الاستخبارات الوطنية في إدارة ترامب القادمة توليسي غابارد بأن سورية لم تشكل يوماً مصدر تهديد للولايات المتحدة الأميركية، هذا الكلام كانت قد قالته بعد زيارتها الأخيرة لسورية في العام 2017 ولقائها بالرئيس بشار الأسد.
ثالثاً: أن سورية تعي تماماً المكانة الجيوسياسية التي تتمتع بها، وبالوقت ذاته تعي بأن وجودها في نقطة تقاطع الكثير من المشاريع الجيوسياسية يجعلها عرضة أكثر من غيرها للكثير من الحملات المسيئة، لكن لعنة الجغرافيا لا تتحمل مسؤوليتها أي سلطة حاكمة بل على العكس يمكن لمن يريد فتح ملف جديد في العلاقات السورية – الأميركية الاستفادة من هذا الموقع بما يحفظ السيادة السورية وعلاقات الاحترام بين الدول، وهذا الأمر لا تتحمل مسؤوليته الدولة السورية بل من يتحمل مسؤوليته من يريد وضعها كعدو من دون حتى أن يحاول إعادة قراءة تاريخ هذه العلاقة بصورة أكثر شفافية وواقعية، فهل يبدو هذا ممكناً مع الإدارة الأميركية القادمة؟
دعونا نتفق أولاً بأن هذه الإدارة ستتولى السلطة في ظروف يبدو معها العالم ملتهباً إلى أبعدِ حد، تحديداً منطقة الشرق الأوسط، فالرئيس المنتخب لا يخفي دعمه لإسرائيل، وهذا منطقي في سياق السياسة الخارجية الأميركية، لكن إدارته لباقي الملفات يبدو معها وكأنه قادر على التحرر من الكثير من العوائق، بمعنى أن لا ارتباط بين الكثير من الملفات المهمة بما فيها ملف العلاقة مع سورية، تحديداً أن سبب المشكلة الحالي واضح وصريح ولا يمكن القفز فوقه يتمثل بوجود القوات الأميركية على الأراضي السورية بشكل غير شرعي ودعمها لجهات تحمل شعارات انفصالية.
من المفيد هنا أن نذكر بأن الرئيس المنتخب لا يتحمل من الأساس مسؤولية المغامرة الأميركية على الأراضي السورية، بل إن من يتحملها هو أقذر رئيس عرفته الولايات المتحدة باراك أوباما، عراب مشروع «الربيع العربي» الذي دمر المنطقة، بل ومن باب الإنصاف فإن ترامب كان ولا يزال يعارض إرسال القوات الأميركية خارج الحدود ما لم يكن هناك خطر مباشر على المصالح الأميركية، بل إنه مع النصف الثاني من ولايته الأولى أصدرَ قراراً بسحب القوات من هناك، لكن البنتاغون عارضه يومها وطلب الإبقاء على بضعة مئات لدواعٍ أمنية، رضخ ترامب يومها لأنه كان يبحث عن ولاية ثانية لكن الوضع اليوم يبدو مختلفاً عن الوضع خلالَ ولاية ترامب الأولى، بما فيها وقوف الكثير من الدول العربية على رأسها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة مع خيار الدفع بالإدارة الأميركية للخروج من الأراضي السورية، تحديداً أن هذه المشكلة تبدو فعلياً أهم مشكلة تواجه الدولة السورية لما لها من انعكاسات من ضياع للموارد الاقتصادية المتمثلة بحقول النفط وتنامي نشاط الجماعات الإرهابية التي تريد وراثة داعش والإخوان المسلمين وهو ما يشكل خطراً على دول المنطقة بالمطلق، لكن هناك من سيسأل وهل سيكون هذا الخروج إن حدثَ مجانياً، وما هو الثمن؟
تبدو الإجابة هنا سهلة وبسيطة، حتى الدول التي ترفع شعارات الموت للآخر، قد تتمكن يوماً من وضعِ أسس لتعاطٍ مختلف واتفاقيات جديدة، فهل نقول إن هناك طرفاً قدم تنازلات ودفع أثمان؟
بالطبع لا، في السياسة لا يمكن القول عن كل توافق في لحظة سياسية ما إنه دفع للأثمان، تحديداً إن الثوابت السورية بما يتعلق بالجولان السوري المحتل وخيار «سلام الشجعان» هما من الثوابت السورية ماعدا ذلك جميعها تفاصيل يمكن الاتفاق عليها بل وتبدو الدولة السورية جاهزة للتعاون في جميع الملفات، والكرة الآن تبدو في ملعب الفريق الآخر فهل سيبدي ردة فعلٍ إيجابية؟
دعونا لا نفرط بالتفاؤل، لكن إعادة دمج سورية في عمقها العربي سيكون له الفصل بما هو قادم، تحديداً عندما يكون الطرف المقابل سياسياً يفكر بعملية رجل الأعمال.
كاتب سوري مقيم في فرنسا