بين إنزال مصياف وتهريجات زيلنسكي.. عندما يتوقف مصير المنطقة على شخصٍ واحد!
بقلم: فراس عزيز ديب
في الطب، هناك نوع من العلاج يسمى «العلاج الوهمي»، غالباً ما يكون أشبهَ بحبة الدواء الخالية من المركبات الدوائية تعطي المريض شعوراً نفسياً بالمقدرة على الشفاء، يوماً ما هناك من اقترحَ استخدامَ هذا الأسلوب عند متسلقي الجبال بإعطائهم أسطوانات أوكسجين وهمية تتدرج بكمية الأوكسجين بداخلها وصولاً لتصبح فارغة تماماً تساعد على تنشيط قدرة الرياضيين على تحمل الضغط، أما في السياسة، فيبدو الأمر مشابهاً لكن الوهم ليسَ في العلاج بل في آلية إخفاء العلّة، فكيف ذلك؟
دائماً ما نتحدث عن قدرةِ الغرب وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية على تسليطِ الضوء باتجاهِ أحداثٍ محددة لتمررَ عبرها أحداثاً أهم بطريقةٍ صامتة، هذا الأسلوب تم اتباعه في الكثير من الملفات من بينها ملف الإبادة الجماعية التي تتعرض لها غزة بسلاحٍ أميركي فيما الأضواء مُسلطة على ملفِ الرهائن أو ملف الضغط الذي لا ينتهي على رئيسِ حكومة العدو بنيامين نتنياهو لوقف الحرب، كم مرة سمعنا خلال الأشهر العشرة الماضية من مسؤولين أميركيين عبارة: حانَ الوقت لوقف الحرب على غزة وما النتيجة؟
خلال الأسبوع المنصرم عادَ هذا التكتيك الأميركي إلى أوجهِ في ملفين اثنين، يظهران بشكلٍ منفصل لكنهما في الحقيقة مترابطان حتى بأدقِ التفاصيل فما هما؟
مما لا شكَّ فيهِ بأن مدينة مصياف هي كما عامودا والبوكمال والقنيطرة وعفرين وغيرها مدن غالية على قلوبنا كسوريين، أهلهم أهلنا ومصابهم مصابنا، لكن حتى أشد المحبين لمصياف مثلاً لم يكن ليتوقعَ بأنها وخلال ساعاتٍ قليلة ستتحوّل إلى تريندٍ عالمي في المقالات والتحليلات السياسية على مستوى القارات الخمس، بعدَ العدوان الإسرائيلي الذي تعرضت له وارتقى على إثرهِ ثمانية عشر شهيداً معظمهم من المدنيين.
نظرياً بدا هذا الهجوم من بينِ أعنف الضربات التي استهدفت سورية كلها، لكن حتى هذهِ التفصيلة كان من الممكن لها أن تمرَّ مرورَ الكرام لكونِ المنطقة الجبلية الوعرة هناك كانت ولا تزال هدفاً للضربات الجوية الإسرائيلية، لولا ظهور مقالٍ يتحدث عن طبيعةِ الاستهداف تبعهُ ظهورَ كلامٍ في وكالات عالمية منقولة عن قادة صهاينة وأميركيين تحدثت عن قيامِ الكيان الصهيوني بعمليةِ إنزالٍ مظلي في المنطقة انقسمت الآراء حول أسبابه، ففي حين تحدثت مواقع أميركية عن تدمير منشأة كبيرة لتصنيع السلاح الكيميائي، هناك مواقع أوروبية تحدثَت عن محاولةِ اختطافٍ لشخصية كبيرة، هنا يقف المرء حائراً، هل من المفيد إضاعة الوقت بتفنيد هذهِ الأكاذيب من عدمِها؟ إذ كيف لقوات كوماندوس أن تدمر منشأة لتصنيع السلاح الكيميائي على الأرض دون أن تتعرض هي نفسها لأي أذى، ودون أن تتعرض المنطقة المحيطة بها على الأقل لتلوث كيميائي؟ وفي السياق ذاته من هي هذه الشخصية التي حاولوا اختطافها ويتوقف مصير سورية والجماعات المقاومة التي تدعمها عليها؟ مع احترامنا للجميع فسورية مثلاً فقدت يوماً ما مطلعَ الأزمة وبضربةٍ إرهابية واحدة أكثر من نصف قياداتها الأمنية والعسكرية ولم تتأثر، فهل ستتأثر باختطاف شخصية غير سورية؟ هذا الهراء الذي تتلاقى فيهِ بعض التقاطعات بين إعلام معادٍ يمهِّد عبر الترويج لهذهِ الأكاذيب لما هو قادم، وإعلام يبدو وللأسف تعجبه مبالغات كهذه وإن كان يقف على الجهة المقابلة للإعلام المعادي، يدفعنا للذهاب بسياقٍ واحد فقط: لماذا تجندَ الإعلام الداعم لإسرائيل لتعويم هذهِ الرواية والتركيز عليها؟
للإجابةِ عن هذا السؤال، دعونا أولاً نمر إلى المثال الثاني الذي جرى عبرهُ تسليط الضوءِ على حدثٍ ثانوي لتمرير الحدث الأهم، فدون سابق إنذار قررَ وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن شنَّ هجومٍ كبير على قناةِ «روسيا اليوم» واتهامها بأنها الذراع الأمنية للاستخبارات الروسية، هنا انتفض الجميع للدفاع عن القناة وحرية الإعلام وغيرها، وهذا طبعاً واجب لكن في حقيقة الأمر فإن بلينكن قبلَ غيره يعرف بأن ما مِن قناة تلفزيونية مستقلة إلا ولها ارتباطاتها، ربما لم يطلع السيد بلينكن على الدراسة التي أجراها في شباط الماضي الأستاذ في كلية الإعلام بجامعة جورج واشنطن، ويليام لافي، والتي شملت أداء البرامج الحوارية السياسية في القنوات الأميركية الأشهر وتعاطيها مع أحداث «طوفان الأقصى» والذي كان أداء منحازاً بالمطلق للرواية الإسرائيلية، لم يستهدف فقط الدفاع عن إسرائيل بل استهدفَ بث المغالطات التي تساعد بتفعيل تعاطف المتلقي مع الرواية الإسرائيلية، شملت حتى طريقة استدعاء الضيوف، حيت استُدعي عشرونَ ضيفاً من أصولٍ عربية من أصل مئة وخمسين ضيفاً أميركياً بلغت نسبة تبنيهم للرواية الإسرائيلية ما حجمه ستة وتسعين بالمئة!
لكن مع ذلك بدا بلينكن بهذا الهجوم وكأنهُ يريد التعمية على أمرٍ أهم، ماذا عن السجالِ الدائر اليوم بين الرئيس الأوكراني المهرج فلوديمير زيلنسكي والإدارتين الأميركية والبريطانية حول السماح لأوكرانية باستخدام الصواريخ الغربية بعيدة المدى؟
منذُ بداية الحرب في أوكرانية كان الحديث عن الدعم الغربي غير المحدود لنظام زيلنسكي هو الطاغي، ولكن دائماً ما كانت التسريبات الغربية تسعى ضمنياً لطمأنةِ الروس من حيث عدم كسر الخطوط الحمر في هذا الدعم، بمعنى آخر، لا سلاح مضاد للطيران ولا صواريخ بعيدة المدى، كان الهدف الغربي هو الاستثمار في استنزاف الروس على جبهةٍ واسعة بأقل الأضرار، لكن سياسة الاستنزاف تلك، لا يبدو بأنها نجحت فكانت المغامرة الأوكرانية في إقليم كورسك داخل الأراضي الروسية هي الرصاصة قبل الأخيرة التي يمكن لنظام زيلنسكي عبرها إعادة خلط الأوراق، غير أن هذا الهجوم يلزمهُ أمران لضمان استمراريته:
الأول: وجود عتاد بشري ضخم قادر على تغطية الجبهات المُحررة وهو ما لا تمتلكه أوكرانيا حالياً، من هنا بدأت الاتصالات بين الجانب الأوكراني وقادة التنظيمات الإرهابية في إدلب عبر ما يسمى «سفارة الائتلاف» في العاصمة القطرية الدوحة والتي تعترف بها كييف كممثل شرعي ووحيد للشعب السوري، فعلياً زارَ أكثر من وفد أوكراني تلك المناطق بذريعةِ الوساطة لإطلاق سراح المقاتلين من جنسيات دول الاتحاد السوفييتي السابق وينتسبون لتنظيمات إرهابية بهدفِ نقلهم إلى أوكرانية للقتال هناك، لكن هذا الأمر تعدى فكرةَ الوساطة لتشمل نقل من يرغب للقتال إلى جانب الجيش الأوكراني، ووصلَ هؤلاء على شكلِ دفعات لكن بعضهم انقطعَ الاتصال بهم وهناك من وصل فعلياً إلى أوروبا بوثائقَ أوكرانية مستغلاً الأبواب المفتوحة للاجئين الأوكرانيين أو من هم في حكمهم.
الثاني: امتلاك كييف لسلاح كاسر للتوازن يمكنها على الأقل التلويح بهِ بوجه الروس حتى لو لم تمتلك الضوءَ الأخضرَ لاستخدامه، لكن من البدهي القول إن هذه الإستراتيجية تثبت مدى الضياع الذي يعيشه نظام زيلنسكي لأنه يعلم قبل غيره بأن اللجوء لسلاح كهذا سيعني ببساطة ردوداً روسية أعنف، بالإضافة إلى ذلك فإن سلاح كهذا لن يبدلَ من المعادلة على الأرض، بمعنى آخر: مازال زيلنسكي ينتظر إنقاذاً غربياً لن يأتي، حتى ولو ظهرَ وهو يتوسل الجماعات الإرهابية في سورية لمساعدته، تماماً كما ينتظر رئيس حكومة كيان العدو بنيامين نتنياهو إنقاذاً من حرب الاستنزاف التي يخوضها وهو لن يأتي، حتى لو كان على شكلِ بطولاتِ وانجازاتٍ وهمية وإعلامية تخبئ خلفها الكثير من السقطات لدرجةٍ دفعت حتى بعض الأميركيين للقول: ماذا لو رفعت الولايات المتحدة يدها عن إسرائيل أو أوكرانيا؟
الجواب هنا ليسَ صعباً ولا يحتاج إلى الكثير من التحليل، لأنه ببساطة يكمن في لجوء الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً إلى السيناريوهات الهوليودية أو الأخبار التي تتخفى خلفها الحقائق المؤلمة، هذه الحقائق يعرفها الأميركي قبل الإسرائيلي، وربما لم ينس الإسرائيلي يوماً قيامه بقصف مستودع مهجور في منطقة الحفة على أنه مستودع لصواريخِ الياخونت الروسية، يومها تحدثَ مسؤولون إسرائيليون عن تضليلٍ استخباراتي وقعوا به، لكن اليوم لا يبدو وسط ما تعيشه دولة الاحتلال من فقدان للتوازن واستنزاف للقدرات جعلها تنسق الهجوم على مصياف حتى مع التنظيمات الإرهابية في الشمال السوري بأن الكلامَ عن تضليلٍ استخباراتي في الهجوم على مصياف غير مفيد، فكان اللجوء للانتصارات الوهمية هو الحل الأقل سوءاً، لكن فيما يبدو بأن هذه الحالة لم تعد استثنائية، بل سنراها كثيراً في قادمات الأيام، فقد يتحول التنور في قريةٍ ما إلى مركز أبحاث كيميائية، وقد تتحول عمليات تقطير المشروبات الروحية إلى مركز أبحاث نووية، لكن كل هذا ورغمَ الخسائر التي نأسف لفقدانها فلن يتغير في المعادلة شيء، فالعلاجات الوهمية يبدو وكأنها فشلت في كشف العلة، وهل من علة نفسية أعقد من الظن بأن المنطقة تقف على شخصٍ فنحاول خطفه!
رحم اللـه الشهداء جميعاً.
كاتب سوري مقيم في فرنسا