مقالات وآراء

جدلية الإعلام

أطلق وزير الإعلام الزميل والصديق عماد سارة رؤية ومقاربة جديدة للإعلام السوري، وتحديداً للقنوات التلفزيونية عنوانها: «إعلام قريب إلى المواطن وبلا خطوط حمراء».
رؤية من شأنها ترسيخ حقيقة أن الإعلام في سورية مستقل عن السلطة التنفيذية، ويجب أن يمارس دوره الكامل كسلطة رابعة لا تجامل ولا تحابي حين يتعلق الأمر بمصلحة الناس وهمومهم ومشكلاتهم.
بصفتي الصحفية، ولكون «الوطن» جزءاً من جسد الإعلام السوري، أسمح لنفسي أن أتوقف عند هذه الخطوة الجريئة، التي وإن أتت متأخرة، باتت واقعة عبر سلسلة من البرامج الميدانية التي تستمع إلى المواطن وتحاوره وتعمل على معالجة مشكلاته (وعلى الفور في بعض الحالات) ما يرسخ حقيقة أن الإعلام قادر بالفعل على ممارسة سلطته شرط أن يسلط أضواءه.
الخطوة جبارة، لكن أخشى أن تصطدم بواقع مؤلم، ويكون انعكاسها ليس كما يتمناه الوزير والقائمون على الرؤية الجديدة.
من واجب الإعلام بكل تأكيد تسليط الضوء على مكامن التقصير والإهمال ومعالجتها، لكن الجدلية تكمن في أن هذا النوع من الإعلام – وأقصد الإعلام بصوت المواطن- من الصعوبة ممارسته بشكل كامل وشفاف حين تكون الدولة تحت الحصار وتخوض حرباً.
قد يكون هذا الإعلام قادراً على معالجة تقصير مسؤولين، لكنه بكل تأكيد لن يكون قادراً على معالجة ضعف إمكانيات الدولة وشح مواردها ولو سلط كل أضوائه عليها، وهنا تقع الجدلية التي لا بد من إيجاد حل لها، فالمواطن الذي اعتاد على مر عقود من الزمن، أن الحكومة هي «أمه وأبوه»، يجب أن يدرك أيضاً أن هذه الحكومة لا تملك اليوم ولا يمكن أن تمتلك تلك العصا السحرية التي تلبي كل رغباته واحتياجاته وتحل كل مشكلاته.
جميعنا يريد قميصاً جديداً من الزفت أمام منزله وفي حارته، ويطمح إلى وجود صرافات آلية تعمل ومملوءة بالمال في أسفل البناء الذي يقطنه، وإلى منظومة صرف صحي في كل المدن والأحياء، وإلى حل لمشكلة العشوائيات ومناطق المخالفات.
ولكن هل سألنا أنفسنا إن كان لدى الحكومة الإمكانات لتحقيق ذلك؟ ولو جزءاً بسيطاً من ذلك؟ ونحن نعلم أنها تواجه أقصى أنواع الحصار الدولي وتعاني شحاً في موارد وتخوض في الوقت ذاته حرباً تكلفها يومياً الملايين من الدولارات؟
صحيح أن الكل منا يريد منظومة نقل متطورة، ومترو أنفاق، وأسطولاً من الطائرات وباصات حديثة وشوارع وأوتسترادات، لكن كيف؟! مع الإشارة إلى أن جمهورية الصين الشعبية قدمت منذ أيام مئة باص نقل داخلي هدية لسورية تم توزيعها على مختلف المحافظات وتفعيلها مباشرة على الخطوط الأكثر ازدحاماً.
هذه الجدلية يجب أن يتم شرحها للمواطن أولاً، وعلى الإعلام أن يساعد الحكومة على تبني ونشر خطاب واضح وشفاف حول القدرات المالية وما يمكن للحكومة القيام به وبشكل عاجل، وما تعجز عنه في الوقت الحالي.
من منا لا يحلم بشراء منزل، أو يتمنى تراجع أسعار الإيجارات؟ لكن في المقابل هل الحكومة قادرة اليوم على بناء عشرات الآلاف من الوحدات السكنية، بحيث تتراجع الأسعار ويتفوق العرض على الطلب؟! بكل تأكيد لا وليس الآن.. إذاً: هل من المعقول توجيه كل سهام الإعلام تجاه وزارة على سبيل المثال أو مديرية لا تملك قدرات مالية لتلبية حاجات المواطن؟
نعم الإعلام قادر على محاسبة المقصرين، وقادر على فرض حلول سريعة، شرط أن تكون هذه الحلول منظورة في الموازنات ومخصصاً لها المال اللازم وقابلة للتطبيق بالسرعة التي يريدها الإعلام ويتمناها المواطن.
منذ أيام تابعت حلقة حول أزمة النقل العام في دمشق، وشعرت لوهلة أن مسؤول النقل الداخلي يخفي الباصات ويخبئها بالقرب من منزله أو وزعها على عائلته لحرمان المواطن منها! فمن حق وواجب الإعلام تسليط الضوء على هذه الأزمة الخانقة، من حق المواطن أن يشتكي منها، لكن على الإعلام ذاته أن يشرح وضمن أسئلته، أن إمكانيات الدولة قد لا تسمح الآن بتوفير عدد كبير من الباصات لخدمة المواطن وتوصيله إلى باب منزله، ولحسن الحظ أن الحلقة أتت قبل ساعات من استلام الباصات الصينية الجديدة التي وضعت فوراً بالخدمة، فتراجعت الاختناقات ولو بشكل متواضع، وانتصر الإعلام في أولى جولاته، ربما نتيجة عامل «الحظ» الذي أوصل الهدية الصينية قبل أيام أو بالتزامن مع بث الحلقة.
ما أريد إيصاله هو أن الرؤية الجديدة خطوة جبارة في بث ونشر معاناة المواطنين يومياً، لكن ما أخشاه هو نتائجها التي يمكن أن تنعكس نقمة على الحكومة وعلى الدولة برمتها، ويكون الإعلام عن غير قصد ساهم ولو بشكل غير مباشر في تعميق أزمة الثقة الموجودة أساساً بين المواطن والمسؤول.
هناك تقصير وهناك فساد ومحسوبيات وهناك إهمال، لكن هناك أيضاً حرب وشح بالإمكانات، وقدرات مالية غير متوافرة، لذلك على المسؤول الذي يظهر في البرامج الجديدة للتلفزيون السوري ألا يتهرب من الكاميرا ويخشاها، بل إن كان فعلاً لا يملك إمكانيات حل المشكلة أو الأزمة، فعليه أن يكون واضحاً وشفافاً ويقدم شرحاً للإمكانيات المتوفرة بين يديه التي من خلالها يمكن أن يعالج مشكلة أو أزمة، إما إذا كان فاسداً أو مهملاً أو مقصراً، فيجب على المسؤول المباشر عنه وفور انتهاء البرنامج محاسبته وإحالته إلى التحقيق، وهكذا يكون الإعلام قد حقق رسالته، ووجد فيه المواطن منبراً لإحقاق الحق، وتكون الدولة أيضاً أثبتت جديتها في محاسبة كل مقصر وفاسد.
وسؤال جدلي آخر يطرحه البعض: هل الإعلام قادر الآن على تسليط الضوء على كل المشكلات وكل الفساد؟ أجزم بأنه غير قادر لأسباب عديدة لن أذكرها، لكن من الأفضل أن يعالج ما هو قادر على معالجته الآن بدلاً من ألا يعالج أياً منها ويستمر كمنبر للحكومة وكبار موظفيها، فيكون إعلام حكومة لا إعلام مواطن، كما كان حاله.
ولن أتطرق هنا إلى المشكلات الكبرى لسورية التي تكمن في تضخم غير مسبوق للأسعار، أو إلى ضعف الرواتب والأجور وصعوبة توفير عمالة في مختلف القطاعات، لكن أجد أنها من المواضيع التي يمكن معالجتها من خلال الإعلام، حيث هناك قطاعات خدمية لا بد أن تحصل على أولوية في الرواتب والأجور مثل عمال النظافة والكهرباء على سبيل المثال، لما يؤدونه من دور وسط ظروف صعبة ولا يمكن الاستغناء عنهم، علماً أن وجودهم بات نادراً.
هي جدلية كبرى، وتحتاج ربما إلى طاولة حوار نصل من خلال النقاش إلى ما نريده عملياً من الإعلام، فبكل تأكيد نحن بحاجة إلى هذا النوع من الإعلام وإلى موقعه الجديد إلى جانب المواطن، لكن في الوقت ذاته نحتاج إلى الشفافية والصراحة التي تجعل المواطن على اطلاع كامل على الصعوبات وظروف الحرب التي تتعرض لها سورية، فيصبح شريكاً في إيجاد وابتكار الحلول إلى حين انتهاء الحرب وسقوط العقوبات. كما نحتاج إلى محاسبة المقصر والفاسد من خلال الإعلام، بحيث يتمكن هذا الإعلام من إثبات موضوعيته وتحقيق رسالته وأهدافه، ويعيد من خلال هذه المحاسبة بناء الثقة بين المواطن والمسؤول.
قد تبدو الجدلية معقدة بعض الشيء وخاصة أن التجربة لا تزال في بداياتها، لكن في جميع الأحوال، لا بد أن نثني على خطوة وزير الإعلام ونتمنى أن تثمر في حل ما يمكن حله من أزمات ومحاسبة من يجب محاسبته من مسؤولين وتجار أزمات، ويتحول الإعلام إلى صوت المواطن، فهذا دوره ومن صميم عمل وزارة الإعلام ومهامها.
ولكن.. انتبهوا!

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock