مقالات وآراء

سدِّ النهضة على نهرِ الخيبات العربية.. عندما تصبح العنتريات حقنات تخدير!

| فراس عزيز ديب

 

«أُكلتُ يوم أُكلَ الثور الأبيض»، عبارة بات العرب يحفظونها عن ظهرِ قلب وهم يرونَ دولَ هذا الشرقِ البائس تتساقط تباعاً، الثابت الوحيد هو عدم التعلم من دروسِ الآخرين، والمتغير الدائم هو الأسلوب الذي يعتمدهُ المتآمرون في التعاطي مع سيناريو كل دولة على حدة منذ حرب الخليج الأولى حتى اليوم والنتيجة بسيطة: بتنا على هامشِ التاريخ.
ليست المرة الأولى التي يُظهر فيها مجلس الأمن العمى عن كل مايتعلق بمصالح هذه الأمة، وحكماً لن تكونَ الأخيرة كيفَ لا وهو من شرعنَ حصارَ سورية والعراق وليبيا، ولولا الفيتو الروسي الصيني لكان المجرم أبو محمد الجولاني اليوم حاكماً لسورية بأمر الله! ثم يأتي من ينتظرَ منه الانتصار للقضايا العادلة: هل حقاً هناكَ من لايزال يستخدم هذا المصطلح؟!
«إن قضية سد النهضة لا تدخل في اختصاصات مجلس الأمن لأنها لا تشكل تهديداً على السلم الدولي»، هكذا أفتى مجلس الأمن الدولي وأعاد الجميع إلى الوقوف على الأرض وعدمَ التحليق بعيداً بسيناريوهاتٍ تخيلية، هكذا أوضحت الدول الكبرى بأن المصالح السياسية أكبرَ من أي شيء. ربما أدرك عُتاةَ المجلس بأن العرب لن يشكلوا يوماً تهديداً للسلم الدولي طالما أنهم منذ عقودٍ يتلقون الضربَات ويمتصونها، وسط تداعي فكرة «الأمن القومي»، ثم عن أي أمن قومي نتحدث والسودان أساساً ضاعَ جنوبه، وانقسم دارفوره، ولم تنفع معهُ حتى كل دفعاتِ التطبيع التي قدمها لقاء رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان برئيس الوزراء الإسرائيلي المنصرف بنيامين نتنياهو.
لكن في الحالةِ المصرية يبدو الوضعَ مختلفاً. مبدئياً دعونا نتفق على أن الوقت هنا ليس لجلدِ الذات، الوقت هنا ليسَ للتربص بمصر وتصفية الحسابات معها، بمعزل عن وجهةِ نظرنا من الأداء الرسمي المصري فيما يتعلق بالقضايا العالقة بما فيها الحرب على سورية، لأن التشفي بمصر ولو من باب «ذوقوا ماذقناه» هو بالمطلق «قلة أدب» لأنك ببساطة تبدو كمن يتمنى الموتَ لمئة مليون إنسان بريء هم إخوة لنا. بالوقت ذاته فإن أي محاولةٍ لتبييض صورة القرار الصادر عن مجلسِ الأمن والحديث عن انتصاراتٍ وهمية لا يقل شأناً عن سابقهِ، هي استمرارٌ لسياسةِ إغلاق العيون عن الوحش كي لا نراه، على هذا الأساس ولكي نوصِّف الواقع بطريقة عقلانية دعونا نجب عن التساؤلات التالية:
هل هناك مبالغة بضرر السد على إقليم وادي النيل الشمالي؟
دعونا نبتعِد عن التفاصيل التقنية التي لا تهم القارئ وتدخلهُ في دوامة الأرقام، لنجيب ببساطةٍ عبر مثالٍ حي لواقعنا السوري. ربما جميعنا شاهدَ ويشاهد انخفاض منسوب نهر الفرات بعد قيام النظام التركي بتقنين الكميات الواردة إليه، هذا التأثير في التدفق ينعكس حكماً على عمليات توليد الطاقة الكهربائية وتأمين الري للزراعات الطبيعية وقت الجفاف أو خارج مواسم الأمطار، علماً أن طول نهر الفرات في سورية لا يتعدى ستمئة كيلو متر وبالكاد يخدِّم خمسة ملايين نسمة من الكتلة السكانية لسورية، ومع ذلك فإن تأثيراته غير المباشرة متشعبة، من انخفاض في المحاصيل وصولاً لمياه الشرب والطاقة وغيرهما لما يقارب عشرة ملايين نسمة.
تعالوا لنطبق هذا الأمر على وادي النيل لنجدَ أن طول النهر نحو ستة آلاف كيلو متر أكثر من نصفها يعبر مصر والسودان عدا عن الروافد، هذا النهر يخدِّم نحو مئة وأربعين مليون إنسان في مصر والسودان بما فيها المشاريع التنموية التي أقيمت بالاستناد لغزارة النهر. الأرقام هنا لا تكذب، وما يروجه إعلام الإخوان المجرمين عن المبالغة في توصيف الأضرار وما تعداه لفرضية ما يسمونه «هروب النظام المصري من مشاكله الداخلية عبر افتعال هذه الأزمة» هو كلام لا معنى لهُ، فالبلدَان فعلياً أمام أزمة وجود وهذا الكلام ليس للاستهلاك الإعلامي، هذهِ حقائق، فلابدَّ من حل.
هل الحل العسكري ممكن؟
لا يخفى على أحد بأن بعض الدول تلجأ عند الأزمات الإقليمية إلى مجلس الأمن من مبدأ البحث عن الحل السلمي قبل اللجوءَ إلى وسائل أخرى، بما في ذلك الحل العسكري، هنا علينا الإجابة ببساطة: عن أي نوع من الحلول العسكرية نتحدث؟
إن كان القصد هو قصف جسم السد فإن هذه الفكرة تبدو غير واقعية، دعكم من التقارير التي تتحدث عن احتمال غرق السودان بطوفان المياه فهذا الكلام لا يبدو دقيقاً، الفكرة تتعلق أساساً بالسلاح المستخدم لتدمير هذا الحاجز العملاق، هل تمتلك مصر فعلياً القدرة على ذلك؟
من جهةٍ ثانية فإن الكثير من التقارير الغربية تتحدث عن سيناريو أكثر منطقية، أي قيام الجيش المصري باحتلال الجزء المقام عليهِ هذا السد وجعلهِ تحت الوصاية الدولية. هذه التسريبات تبدو عملياً محض أوهام، بالتأكيد لا نشكك بوطنية وعقائدية الجيش المصري لكننا بالوقت ذاته علينا التعاطي بموضوعية مع حقنات تخديرية كهذه، وهل من عامل ساهم بهلاك مقدَّرات هذه الأمة أكثر من أسلوب الحقنات التخديرية؟! الأسوأ من ذلك أن تكون تقارير كهذه نوعاً من وضع القيادة المصرية تحت الضغط تمهيداً لتوريط الجيش بهكذا مستنقع؟
كل الاحتمالات واردة لكن دعونا نتفق على أن خطوة كهذه لا يمكن أن تلجأ إليها مصر من دون حصولها على ضوءٍ أخضر دولي، وواقع الحال يقول بأن الحصول على هذا الضوء مستحيل، ففكرة الاستثمار بالسد تشرف عليها كبريات شركات الاستثمار الزراعي والطاقة المتجددة، وهم حكماً لا يتحركون إلا بموجبِ ضمانات من الدول الكبرى تتعلق بالبيئة الآمنة للاستثمار.
هل من مراجعة شاملة؟
السد باتَ أمراً واقعاً، هذه الحقيقة على الجميع الاعتراف بها بعيداً عن العنتريات التي لا تجدي نفعاً. ربما يبدو خيار التفاوض هو الأقرب، أما من ينتظر حرباً أهلية في إثيوبيا انطلاقاً من إقليم «تيغراي» ليبني على الشيءِ مقتضاه وادعاء انتصارات استخباراتية، عليهِ أن يتذكر بأن الدول التي تمتلك القرار حتى لو سمحت باتساع رقعة المواجهات الداخلية فإنها ستحمي كل ما لهُ علاقة بالثروات والاستثمارات طويلة الأمد من حقول نفط وسدود وغيرها والتجارب أمامنا كثيرة، على هذا الأساس ليس عليكم البحث عن حل تفاوضي فحسب ولكن عليكم البحث عن الأسباب التي أوصلت الأمور إلى هذا الحد من الضياع.
علينا أن نتساءَلَ كعرب، لا مصريين فحسب، كيف نجحت دولة كإثيوبيا بأن تجمعَ من حولها كل هذا التعاطف رغم أنها حتى الأمس القريب كانت على هامش الجيوبوليتيك ولم تقدم أي تنازل، فيما كل ما ندركهُ نحن العرب هو تقديم التنازلات بالمجان هنا وهناك من دون أن يكترث بنا أحد، وللمفارقة فإن هذا الغرب لا يعير العرب أهمية إلا عندما يتآمرون على بعضهم بعضاً، قارنوا فقط بين جلسات مجلس الأمن المتعلقة بسورية وجلسة مجلس الأمن المتعلقة بقضيةِ سد النهضة، قارنوا كيف يشرعن مجلس الأمن احتلال حقول النفط لدولة ذات سيادة وسرقة خيراتها بينما يعتبر قضية كتعطيش الملايين في سورية ومصر والسودان قضايا هامشية لا تدخل في اختصاصه، ليصبح السؤال المنطقي: هل وصلوا متآخرين؟
بالتأكيد، ويبدو أن لا مجال لتعديل هذا الخط التنازلي لما تبقى لنا من إرث ما دام الجميع يتجاهلون بأن من استخدمهم بالأمس ليطعن ظهرَ أخيه، سيأتي اليوم الذي يصبح فيه من ظنهم أصدقاءه سكيناً في ظهره، ترى هل يمكن لنا مثلاً أن نصدق بأن إعلامياً سورياً يعرف معنى مصر سيزور منطقة يسيطر عليها انفصاليون مصريون لتبييض صورتهم؟ حكماً لا، لأن الخلاف شيء والثوابت شي آخر!
حمى اللـه مصر والسودان.. لكن ليس بالأمنيات ولا بالدعاء ولا بإعلام يحول ليل نهار الخيبات إلى انتصارات تنتصر الدول ويحيا الإنسان!

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock