مقالات وآراء

عن الإساءة للمقدسات وصناعات الغرب المنتصرة.. متى سنستلم زمام المبادرة؟

فراس عزيز ديب

قيلَ يوماً: في أي صدامٍ بين الشرق والغرب كانت الصناعة الغربية تحسم المعركة بسهولة.

دعكم هنا من ضجيج المصانع فالصناعة التي تتحدث عنها هذهِ المقولة هي خارج سياق الإنتاج المادي تحديداً، لأن ما نمتلكه من مواد أولية فكرية قادر ببساطة على جعلِ المنتجات مطواعة على حسبِ ما يرسم هذا الغرب.

إنها مقولة ربما جعلت هذا الشرق يدفعَ ثمن كل ما في هذا العالم من حماقات، فقدر هذا الشرق أن يكون ألف باء كل المغامرات القاتلة، وفاصلةَ ابتداء الصراعات المتجددة، وهمزةَ وصلٍ بين صدام الحضارات، فمن قال: إن صامويل هنتنجتون كان يهذي؟ لا على الإطلاق نحن من كان يهذي عندما كنا نظن بأن السياسة تحمل مفهوماً أخلاقياً، والعلاقات بين الدول تعطي الكثير من الأهمية لمصطلح العلاقات الأخوية، ونحن من كان يهذي عندما ساهمنا بهذا الصراع منذ عقودٍ، وعوضَ أن نلعنَ القادمين من خارج التاريخ بمسمى خلافاتٍ إسلامو- سياسية والتي كانت أحد المعطيات المؤسسة لهذا الصراع، سميناها فتوحاتٍ، فجلسَ سلطانٌ عثماني وهو ينتظر قدومَ زنوبيا وبلقيس إلى حرملك السلطان، والنتيجة ما زلنا نحصد قمحَها حتى الآن، لكنه ليسَ كما القمح الذي فسره سيدنا يوسف عليه السلام لعزيز مصرَ بأنه سنوات خير، فلقد كانت للأسف قروناً من الظلام والانحدار لدرجةٍ بات فيها من ينتظر إعلان موتنا، وعندما بدأنا نتلمس لحظات التقاط الأنفاس في هذا الشرق، عندما بدأنا نرى بأن نيران التحريض المذهبي عادت أدراجها بعدَ تحقيقها انتصاراتٍ كاسحة في مواضعَ ما وهزائم كبرى في مواضعَ أخرى، بدا وكأنَّ هناك من اكتوى بهذهِ النيران، هذا الشرق يجب أن يبقى ملتهباً مهما تحدث العلماء عن التبدلات المناخية وعودةَ طريق دمشق ـ الحجاز أخضر تتوسطه البحيرات، هناك مناخ واحد فقط هو الذي يجب أن يسيطر في الأجواء حتى لو كانت أصداء هذا المناخ تتجاوز المحيط الجغرافي لهذا الشرق، لكن التفصيل الأهم يجب ينطلق منه، فما الجديد؟

عادت همروجة الاعتداء على المقدسات وعادت معها ردّات الفعل المتفاوتة بين تجاهلِ الحدث أو محاولة الرد على صانعيهِ بعقلانية، مروراً بالاعتداء على سفارات السويد في عددٍ من البلدان لكونها الدولة التي سمحت باستضافة الحدث، وصولاً إلى طرد سفرائها في عدد من الدول العربية، لكن ما ميز الحدث هذه المرة أن صانعه هو مواطن يحمل جنسية دولة عربية غالية على قلوبنا وهي الجنسية العراقية وهو المجرم سلوان موميكا، هذا التفصيل البسيط قد يكون مر مرور الكرام تحديداً أن الشخص الذي قام بما قام به حاولَ جاهداً أن يفسر الحدث من منطلق حقده على وطنهِ، هناك من استغرب من كمية الحقد التي حملها هذا المجرم لدفعهِ بالقيام بما قام به وحقيقة لا أعلم أبداً علامَ الاستغراب؟ ما الفرق بين الإساءة للمقدسات بذريعة الحقد على الوطن وبين من كان يغني «تعا لعنا يا ناتو»، ما الفرق بين الإساءة للمقدسات وبين من دمر مؤسسات بلده بذريعةِ أنها «مؤسسات نظام كافر» جميعها أحداث لا تنم إلا عن أحقادٍ شخصية علينا ربما إعادة النظر بأسباب تفشيها في مجتمعاتنا دوناً عن باقي المجتمعات!

لكن بذات السياق دعونا لا نبحر كثيراً بين أمواج فكرة المؤامرة بما قام به هذا المجرم، هو اعترف بأنه نسَّق مع جهاتٍ يهودية وجمعياتٍ مسيحية لكن هذا الاعتراف هو نوع من زيادة التوتر لا أكثر وللأمانة لا يبدو هناك هدف منطقي من دفع هذا المجرم للقيام بما قام به سوى مجرد سرقة الأضواء من أحداثٍ مهمة تجري في مناطق كثيرة من هذا العالم، الحديث هنا عن مؤامرة وما شابه يبدو وقوعاً في فخ اعتدنا الوقوع به، دون أن ننسى بشهادة أصدقاء حضروا ما قام به هذا المأفون أن هذا الحدث لم يوحد فقط غيارى المسلمين بمعزل عن مذهبهم، لكنهُ أخفق بإثارة القوميات التي كان يسعى لاستثارتها، فالمرأة التي كانت تنهال عليه بسيل الشتائم لأنها لا تقوى على ما هو أبعد من ذلك، كردية عراقية، فيديو آخر يوضح قيام مطعمٍ برفض بيع هذا المجرم زجاجة عصير ويظهر شاباً يوبخه ويقول له: «أنا مسيحي مثلك وأكثر منك ولكن ما تعمله عيب» وغيرها الكثير من الفيديوهات لناشطين اتحدوا جميعاً عل فكرة رفض هذا الحدث، ولعل أي عارف سيدرك بأن هذا الحدث لن يبدل شيئاً، سيُنسى بمجرد انتهائه لذلك دعونا عملياً من فكرة المؤامرة أو الذهاب بعيداً بالحديث عن تبديل الفتنة المذهبية بفتنة إسلامية ـ مسيحية، هذا كلام بعيد عن الواقع، ربما علينا إعادة ترتيب طرق التعامل مع هكذا نوع من الأحداث قياساً بما نعيشه من متغيرات، اليوم مثلاً نحن في زمن العولمة التي حملت الكثير من الإيجابيات لكنها بذات السياق حملت الكثير من السلبيات، قبل التفكير بالخروج للرد على ما قام به هذا المجرم وما سيقوم به مجرمون آخرون من إساءة للمقدسات، دعونا أولاً نصل إلى تحديد مفهوم المقدسات كي لا نبقى خارج السياق العام لمسار الحضارة، هناك من يرى بالنصوص الوضعية نصوصا مقدسة لا يمكن المساس بها، أليسَت هكذا فكرة إساءة لمفهوم القداسة؟ بذات السياق هناك من لا يزال يرى رجل الدين شخصاً مقدساً ممنوع المساس به، أليس هذا الكلام هو نوع من إعطاء صفة التنزيه الذي لا تعطى لبشر؟ فعلياً نحن بحاجة لجلسة صدق حتى نحدد مفهوم المقدس مما ليس مقدساً، مع التأكيد هنا أن الكتب السماوية والأنبياء عليهم السلام هم خارج سياق هذه المفاضلة بالمطلق كي لا يقوم أحد بالاصطياد بالماء العكر، أما عدا ذلك فكل من يحمل فكراً أو رمزية بشرية هو قابل للنقد مع التأكيد أن هناك فرقاً بين النقد والإساءة التي هي مرفوضة بالمطلق.

من جهة ثانية وبعد تحديد مفهوم ما هو مقدس، علينا هنا أن نتجه لتحديد معالم هذه القدسية التي تحمي هذا المقدس، في الإطار العام يمكننا فهم انتهاك هذه القدسية بسياقين اثنين:

السياق الأول، الإساءة الشكلية وهو السياق الذي حدث مع المجرم سلوان وحدث مع «شارلي إيبدو» الفرنسية وغيرها، وهي بالمناسبة لن تتوقف وستستمر وقد لا أبالغ إن قلت إن الحل الأول والأخير لهكذا قصص تجاهلها، ما زلت أرى أن ردات الفعل غير المدروسة على هذه الإساءات هي نجاح المستفزين بالوصول لمبتغاهم أكثر ما هي انتصار لله ورسوله، لماذا لا نجرب هكذا أمر؟ بالمناسبة ربما فعل خيراً الكثير من العرب والمسلمين في السويد بتجاهلهم ما حدث وأكاد أجزم لو كان هذا الحدث في فرنسا مثلاً لما كان الحال على حاله لهذا ترك قانون الإدارات المحلية الفرنسي الخيار لحاكم كل ولاية أو محافظة بحق إلغاء أي حدث يراه مؤثراً في الأمن العام وسلامة المجتمع.

السياق الثاني، الإساءة الضمنية وهي الأخطر والأولى لنا الاهتمام بها، لأن هذا السياق للأسف قد نراه يومياً على مواقع التواصل الاجتماعي، قد نراه عبر فيديوهات تظهر أمامنا دون سابق إنذار، عندما ترى متطرفة تدَّعي بأنها ابنة المسيح المخلصة تسيء كل يوم للدين الإسلامي بطريقة تبدو معها ما فعلهُ المجرم سلوان وكأنه عمل عادي، هذه المأفونة ومن هم على خطاها لا تتوقف عن المجيء بالأكاذيب والتحريفات لكنها بذات الوقت تلعب على مشاعر المتابعين إما من خلال الحديث عن معونات للمحتاجين مثلاً أو غيرها، ترى ماذا فعلنا لنحصن ديننا من هذهِ الآفات أو لنقل نقاط الضعف التي يستغلها هؤلاء في المضمون؟ اللافت هنا أن كثراً ممن يدَّعي الرد عليها لا يقل تطرفاً وتكفيراً للآخر عنها، كلاهما يمثل الوجه الحقيقي للمشرقية المتطرفة التي لا تعترف بالآخر ولا تحترم عقائده ثم يتحدثون عن التسامح! كلاهما يمتلك فكراً داعشياً الأول يجعله ينسى بأنه يقتدي بمن قال «من ضربكَ على خدك الأيمن..» والثاني يتجاهل تماماً قوله تعالى «ومن شاء فليكفر»، ألا يسيء كلاهما للمقدسات أكثر بكثير مما أساء سلوان و«شارلي إيبدو» وغيرها؟! واللافت أن أمثال هؤلاء يتصدرون «التريند» بطريقة أشنع مما قام به المجرم سلوان وأكثر.

ربما إننا في هذا الشرق مازلنا نصارع بين قدرتنا على قول الحقائق كما هي، وضبط ردّات فعلنا بطريقةٍ تحفظ كراماتنا، كل هذا كان ولا يزال صراعاً نعيشه لأننا ببساطة ما زلنا أسرى الصناعة الغربية التي نستخدمها في صراع الحضارات، هل من عاقلٍ يظن بأن هناك من سيعطينا سلاحاً لننتصر؟ على العكس ما لم نقم بنهضة نتبناها جميعاً تحدد مفهوم القدسية والمقدسات سنبقى كذلك.

مجردَ سلوان يهزنا، وعشرات السلوانات بين ظهرانينا نصفق لهم، ليس هذا فحسب بل نقول منعاً لانتقادهم: لحومهم مسمومة!

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock