في ذكرى سقوط بغداد: أنهار السلام القرمزية ومومياء الهروب من التاريخ!
بقلم: فراس عزيز ديب
تمرُّ كلَّ عامٍ كأنها ذِكرى عابرة..وليست تأسيساً لكلِّ ما نعيشهُ من فظائعِ السقوط، تخيلوا أننا نتحدث عن ذكرى سقوطِ بغداد ودخولِ مرتزقة الاحتلال الأميركي على ظهر دبابات الاحتلال الأميركية عاصمةَ التاريخ!
ربما كان التلفزيون العربي السوري وقتها سبَّاقاً بفهمِ الكارثة عندما انفردَ بنشرِ الموسيقا الجنائزية، في الوقت الذي كانت الأفراح والاحتفالات تعم باقي العواصم العربية.
هذا التلفزيون يومها لم يتصرف من بناتِ أفكاره، بل كان انعكاساً لرؤية سياسية لم تتعاط مع الحدث انطلاقاً من فرضيةِ الحزن على نظامٍ يعرف القاصي والداني حجم الأضرار التي سببها لسورية، بل حزن على ما هو آتٍ لهذه المنطقة من كوارث، سواء بتخطيطٍ من عدونا الذي «يفاجئنا» ومنذ وعد بلفور بتبديل الأسلوب والتكتيك وما زلنا بعد أكثر من قرنٍ نلعب دورَ المتفاجئ، أو بسوءِ تقديرٍ منا بآليةِ فهم الخيارات والتحالفات، والأهم فصل السياسة عن الأخلاق لأن السياسة أولاً وأخيراً مصالح.
مازالت تلكَ الموسيقا الجنائزية تعزف دونما توقف، جميعهم تبدلوا وتغيروا لكن الثابت الوحيد تلكَ الموسيقا الجنائزية، لأن من تبناها كل هذهِ السنوات وضع وجهةَ نظرهِ الشخصية وخلافاتهِ الثنائية جانباً لأن مصلحةَ العراق ووحدة العراق أهم، أما الآخرون فليتهم بقوا مكانهم لكنا صفقنا لهم اليوم. كيف ستتوقف تلكَ الموسيقا الجنائزية وهي بعدَ ما بكت بغداد باتت تبكي اليوم دمشقَ وطرابلس وصنعاء وبيروت، كيف ستتوقف ومن باع بغداد تآمر حتى على نفسهِ؟ لدرجةٍ بتنا فيها لا نعرف على أيِّ عاصمةٍ سنبكي؟ هذا واللعبة لم تنته بعد، فكيف ذلك؟
ربما من غيرِ السهل الوصول اليوم إلى التفسير المنطقي الذي يدفع المواطن العربي لانتظار انفجار الوضع في هذهِ الدولة أو تلك، أو الشماتة بأخبارٍ من قبيل حدوث انقلابٍ هنا ومخططات لقلب نظام الحكم هناك، هل إن المواطن العربي فعلياً بات متعايشاً مع مشاهد الدم ورائحة البارود لهذا الحريق المفتوح في هذا الشرقِ البائس، فيبدو كمن لا يستطيع العيشَ من دونهِ؟
قد نتفَهم على مضضٍ موقف بعض العرب من نظام حكمٍ هنا أو هناك، تحديداً أن معظم هذه الشعوب ونتيجة ما تتعرض له من غسيلِ عقولٍ فإنها تبني موقفها على اعتباراتٍ هامشية لا علاقةَ لها بالمنطق، مذهبية، طائفية، قبلية إلخ، لكن لنكن واقعيين وبسردةٍ تاريخيةٍ بسيطة فإننا نسأل: متى رحل أو رُحِّل قائد عربي وجاءَ من هو أفضل منه؟ إذاً لماذا التهليل؟
الأمر الثاني أن الدماء التي أُسيلت في هذا الشرق البائِس يجب أن تدفعنا للخوف على البسطاء لأنهم فقط من يدفع الثمن، لكننا ببساطةٍ نختار دائماً العبارات الرنانة، ونتناسى أن حمام الدم إن شرّعَ أبوابهُ لن يتوقف بالسهولة التي نظن، متى سنفهم بأن موقفنا من أي نظام حكم يجب أن ينطلق أساساً من الحرص على الشعب في هذا البلد، هل حقاً ما زال هناك متسعٌ للدماء؟
حتى بمفهوم القضية الجامعة كالقضية الفلسطينية بات الانقسام الواصل حد الشماتة ميزةً، هناك من بات يتساءل جدياً: إلى متى؟ إما أن تعلنوا الحرب أو تعالوا للتطبيع، هناك من يبني فرضيات كثيرة على فكرةِ أن التطبيع سيصنع الرخاء، لكن هل حقاً هناك من لا يزال يعتقد ذلك؟
ببساطة تبدو هذه الفكرة هي جزء من صناعةِ الأكاذيب التي تتقنها مواقع التواصل الاجتماعي، يكفي أن ترمي أكذوبة حتى تصبح هي القاعدة، من كان يظن بأنه سيأتي يوم لنرى من يقنعنا بأن الفراعنة عرفوا «الإله الواحد»، وصاموا ثلاثين يوماً؟! لم يبق إلا أن يخبرونا بأن القائدَ «أحمَس» كان من المبشرين بالجنة وأن عمود النور شوهد يصعد إلى السماء من قبرهِ في مدفن «أبيدوس». طبعاً في واقعنا السوري لا يختلف الأمر كثيراً، إياك أن ترجمَ «عشتار» مثلاً لأنها آلهة الحب، والسوريون القدماء حسب البعض لم يسرقوا ولم ينهبوا هم أيضاً عبارة عن مجموعةٍ «من المبشرين بالجنة»! هكذا ندخل في المتاهات السخيفة، هكذا يتم كي العقول ونحن نجلس لنشاهد حرباً شعواء حول «شرعية» ظهور شعر المومياء من عدمهِ كأنه كفانا كل ما لدينا من مومياوات فكرية وأكاذيب تجعلك تدخل في مرحلةِ الندم لأن عصا سيدنا موسى شقَّت البحر، ترى ماذا لو لم يغرق فرعون الذي هو ليس مصرياً حسبَ البعض، هل كانوا ليتبرؤوا منه؟!
لكن التاريخ ليس كل شيء، فكم من «مبشَّرٍ» بالجنة أقنعَ قطيعه بأن التطبيع المجاني مع الكيان الصهيوني هو واجب شرعي انطلاقاً من الآية الكريمة «وإن جنحوا للسلم فاجنح لها»، ربما لن ندخلَ هنا بالسؤال العصيب: «هل تصلح الآيات القرآنية لكل مكانٍ أو زمان»؟ كي لا نُتهم بتقديم العقل على النقل لكونها في هذا الشرق البائس تهمة؟ لكننا سنقول لمن يظنون بأن الله لم يهدِ سواهم إلى التطبيع المجاني: جنحوا للسلم، لكن مؤشرات البطالة والعوز والفقر والنوم في المدافن لم تجنح هبوطاً بل على العكس، جنحوا للسلم لكن الطرف الآخر لم يوفِّر حتى من قدم له السلام على طبقٍ من ذهب فقتلهُ أو تخلصَ منه، جنحوا للسلم ولم يتركوا «الناجي الوحيد» بعيداً عن سلمهم لكنهم تآمروا عليهِ، هل علينا فعلياً أن نعود برحلةٍ إلى كل العواصم بما فيها تلك التي دخلها المحتل لجلب الدواء والغذاء لنشاهدَ حجم الرخاء؟!
قرأنا في كتب التاريخ بأن مياه الفرات أصبحت سوداء عندما ألقى غزاتها بمقتنياتِ مكتباتها في البحر، هل نصدق اليوم بأن هناك من يجهد لنفي حدوث هذا الأمر؟ تماماً كما نحن اليوم أمام من يبرِّر للمجرم اغتصاب وطنهِ، هؤلاء ذرهم في طغيانهم يعمهون، لأنهم لن يروا كيف باتت مياه أنهارنا قرمزية، وخياناتنا بلون الدفاع عن النفس، وخناجرنا وسيوفنا هي للاستعراض أمام من يقتلنا، هل حقاً إننا نستحق الحياة؟
لم يأخذوا من العراق إلا مقولةَ حاكمه يوماً بأنه رأى رؤوساً قد أينعت وقد حان موعد قطافها، وبدل أن نجني ونقطف نتاج مشاريعنا وخططنا الاستثمارية، باتوا كلهم «حجَّاج» فأين هي تلك الرؤوس؟ على الأقل فإن الحجاج كان سفاحاً لكنه كان «رجلاً» في وجه عدوه اليوم، هناكَ من لا يريد أن يحصد إلا الرؤوس البريئة!
تبدو هذه المراجعة حزينة وكئيبة لا مكان فيها للتفاؤل، لكن بالوقت ذاته هي استذكارٌ لذاك السقوط الذي لم ندرك يومها خطورته، هي استذكار لمن ظنَّ بأن سقوط التمثال هو الدخول إلى الجنة، وفي الحقيقة كانت إيذاناً لفتحِ أبواب جهنم مهما كره البعض هذا التوصيف، لكن أليس هناك من مكانٍ للتفاؤل؟
ببساطة بغداد لم تسقط ودمشق لن تسقط، نحن من يسقط وهنَّ سيكملن كما يكمل الياسمين عبقهُ، لكن وفي كل لحظات التفاؤل أعود لحالةِ التعاسة ذاتها عندما يخرج من يصف حدثاً ما بأنه «خطر على الأمن القومي العربي»، ويحَنا! ماذا أبقيتم من هذا المصطلح؟!
عندما ندرك ماذا بقي من هذا المصطلح، سنعرف لماذا ينجح العدو بالتآمر ونبقى نحن نتلقى الضربات!