ما أثار انتباهي في عناوين الصحف العربية والأجنبية حول الحرب الخطرة والمستجدة بين أرمينيا وأذربيجان في إقليم كاراباخ هو الحذر الشديد من الأطراف المعنية أن تثبت رؤاها ومقولاتها بغض النظر عن هدف إخماد هذه الحرب وإنقاذ الأرواح والبشر والبنية التحتية وإغلاق جبهة أخرى من القتال وسفك الدماء؛ فقد ركزت معظم العناوين على أن نقل مرتزقة سوريين إلى أذربيجان يثير غضب روسيا وأن إيران وسورية قلقتان من تطوّر الصراع في الإقليم وأن إيران تخشى من ارتدادات الموقف على الأقلية الأذرية داخل بلدها. وفي كلّ هذا إغفال لحقيقة غدت واضحة للعيان بعد العدوان على ليبيا وسورية واليمن واليوم اشتعال أوار الحرب في كاراباخ، وهذه الحقيقة هي أن الإرهاب الذي يدعي الكثيرون محاربته من دون أي فعل جديّ لمحاربته، أن هذا الإرهاب هو في الواقع والحقيقة أداة بيد دول بعينها بعضها عضو في الناتو والأمم المتحدة وتملأ الأجواء ضجيجاً عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والقيم الإنسانية والدبلوماسية؛ إذ وبغض النظر عن هوية الإرهابيين حاملي السلاح الذين تمّ نقلهم بالأمس إلى ليبيا واليوم إلى أذربيجان، وبغض النظر عن التصنيفات التي أطلقت عليهم فإن العامل الأهم في الموضوع هو أن الدولة التركية ورئيسها أردوغان اتخذوا قراراً واضحاً أولاً ومنذ سنوات باستقبال كلّ أنواع شذّاذ الآفاق ومساعدتهم للعبور إلى الدولة السورية ليمارسوا الإرهاب والسرقة والقتل والإجرام، ومازالت تركيا اليوم تستخدمهم لسرقة محاصيل القمح والشعير والنفط والآثار من الأرض السورية ونقلها إلى تركيا لتحرم الشعب السوري من منتجات أرضه وخيراته بقوة سلاح الإرهاب نفسه الذي استخدمته لتفكيك المعامل في حلب ونقلها إلى تركيا. ثمّ بعد ذلك نقلت آلاف الإرهابيين من جنسيات مختلفة إلى ليبيا لتغيير دفّة الصراع هناك ما يسمح لها بسرقة النفط والغاز الليبيين. وأوضح مثال اليوم يقدّمه أردوغان من خلال نقل المرتزقة للقتال في إقليم ناغورني كاراباخ، وهذه هي الحقيقة الأهم والعنوان الأهم الذي يجب على العالم التوقف عنده، وهو أن للإرهاب رُعاته وأسياده والمستفيدون منه والذين يستخدمونه كأداة وواجهة لما يرغبون في سرقته أو احتلاله وكي لا يتحملوا مباشرة مسؤولية الجرائم التي يرتكبها الإرهابيون، ولكن وكما لاحظنا حين أوشك الإرهاب على الاندحار في الشمال الغربي السوري زجت تركيا بجيشها وقواتها للحفاظ على الإرهابيين والاستمرار في استخدامهم، وحين أوشك الجيش العربي السوري وحلفاؤه على تحرير منطقة التنف الإستراتيجية الواقعة على نقطة التقاء الحدود السورية العراقية الأردنية، قامت الطائرات الأميركية بقصف الجيش العربي السوري وحلفائه كي لا يتم دحر الإرهابيين، ومازالت تدربهم وتنقلهم من منطقة إلى أخرى حسب الحاجة وحسب ما يتطلب احتلالها للأرض والموارد. ولا شك أن الولايات المتحدة وكما هو معروف قد استخدمت الإرهابيين كأداة في أفغانستان وما زالت تستخدمهم في العراق واليمن وسورية، على حين التصريحات من المسؤولين الأميركيين تدّعي محاربة الإرهاب. إذاً هذه الظاهرة العالمية الخطرة التي تعود لعقود والتي وجدت في العواصم الأوروبية موئلاً لقادتها منذ عقود، دخلت وانطلقت من هناك لإثارة الفوضى وتدمير بلداننا، هي من صنع دول بعينها معروفة ويشهد سجلها وتاريخها ووثائقها على الدور الأساس من تمويل وتخطيط وتجهيز في إنشاء وحماية وتدوير العصابات الإرهابية من بلد إلى آخر ومن منطقة إلى أخرى. ربما هذا ما يشعر به الكثيرون من دون القدرة أو الرغبة في الإفصاح عنه، وربما هذا هو أحد أسباب انعدام الثقة بما تروّج له الأنظمة الغربية وبما تدّعيه اليوم.
صحيح أن كوفيد 19 قد سبّب جموداً حركياً في العالم برمّته، ولكن فوضى ما يتعرض له العالم من اهتزاز في القيم والمفاهيم والمصداقية قد تسبّب أيضاً بعزوف الكثيرين عن المشاركة في الحوار أو النقاش أو وضع الرؤى أو استكشاف آفاق المستقبل القريب والمنظور. وكلمة «عزوف» هي تعبير عن بداية قنوط من هذه النظم التي تفقد مصداقيتها شيئاً فشيئاً ومن التناقض الصارخ بين ما يتم الترويج له وبين الواقع الملموس. وفي هذا القنوط بحث خفي عن بدائل لم تظهر بوادرها بعد؛ فمن ينتظر اليوم، على سبيل المثال، الثالث من تشرين الثاني ليعرف نتائج الانتخابات الأميركية؟ معظم الآراء التي تمّ استطلاعها في مناطق مختلفة من العالم تقول إن انتخاب أي من المرشحين الأميركيين لن يُحدث فرقاً لأن الخلل البنيوي في الولايات المتحدة لن يمكّنها من لعب دور قياديّ في العالم بعد اليوم. والسبب الأساس في ذلك هو أن حكومة الولايات المتحدة قد فقدت جزءاً كبيراً من مصداقيتها في علاقاتها مع الدول وحتى في علاقتها مع شعبها داخل حدود الولايات المتحدة، وأيضاً وإلى حدّ كبير في علاقتها مع أوروبا التي كانت إلى أمد قريب ترجع صدى ما تقوله وتقرّره الولايات المتحدة، إضافة إلى تبنّي أسلوب فرض العقوبات كأسلوب وحيد للعلاقة مع الدول أو التأثير فيها أو محاولة إرغامها على تغيير اتجاهها وسلوكها منطلقة في كلّ هذا من مفهوم الاستثنائية والفوقية الأميركية الذي ينتهي بمواقف عنصرية من أبناء أميركا أنفسهم ذوي البشرة السمراء ومن أبناء دول أخرى لا تؤمن بالاستثنائية الأميركية وترفض أن تمتثل لإملاءاتها.
مقالات وآراء