وقد أسمعت لو ناديت حيّاً!
بقلم: أ. د. بثينة شعبان
حين كانت عملية السلام قائمة في واشنطن بعد مدريد وقبل اتفاق أوسلو كان بعض الإسرائيليين يقولون للفلسطينيين لو أردنا أن نضع طاولة حسب ميزان القوى بيننا لكان شكل الطاولة مختلفاً تماماً منوهين بالقوة العسكرية للكيان الصهيوني مقارنة مع شعب تحت الاحتلال يناضل بلحمه الحيّ من أجل نيل حريته واستقلال بلاده وإحقاق حقه في أرضه.
هذه الصورة عادت إلى ذهني وبقوة وأنا أراقب المسؤولين الأميركيين يتوافدون إلى الكيان الصهيوني لضمان سلامة وحرية الأسرى الإسرائيليين غير آبهين بعشرات آلاف الشهداء من الأطفال والنساء والمدنيين العزل الذين قضوا نتيجة القصف الوحشي للمدنيين الفلسطينيين وبالدمار والتهجير والنزوح واللجوء الذي تسبب به طائرات الاحتلال الأميركية الصنع وكل أنواع الأسلحة الحديثة التي تقدمها الولايات المتحدة بسخاء لهذا الكيان كي يتمكن من الاستمرار بحرب الإبادة التي يشنها ضد شعب يناضل من أجل حريته وخلاصه من الاحتلال الأجنبي والتي تشكّل وصمة عار في تاريخهم وتاريخ كل المتواطئين معهم أو الصامتين حيالها.
لقد أطلقوا على وقف العدوان «هدنة» وكأن الطرفين متساويان في حرب يمتلك كل واحد منهما أدوات الحرب المعهودة، على حين هو عدوان موصوف على شعب أعزل وحرب إبادة وتطهير عرقي لا علاقة لها بالقضاء على حماس بل هدفها الوحيد هو قتل وتهجير شعب فلسطين من أرضه واحتلال هذه الأرض بموقعها وخيراتها والتخلص من سكانها الأصليين من خلال أبشع المجازر والتطهير العرقي الذي عرفته البشرية في زمننا الحديث. إذا كانت هذه الهدنة المزعومة قد نجمت عن إدخال 1 بالمئة فقط من احتياجات القطاع من وقود وأدوية وغذاء وإذا كان يوم انتهائها قد حصد أرواح أكثر من مئتي شهيد فلسطيني وأكثر من ستمئة جريح فما هو التصوّر لليوم الذي يلي إنهاء هذه الهدنة طال الزمن بها أم قصر؟ أم إن الهدف الأساس من كل ما يحاول الأميركيون فعله بما فيهم نائبة الرئيس القادمة إلى المنطقة هو ضمان إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين ومن ثمّ تصرّح كما صرّح مستشار الأمن القومي الأميركي جون كيربي أنها تؤيد «قرار إسرائيل باستئناف القصف على غزة».
أما إطلاق سراح أسرى فلسطينيين بالمقابل فهو ليس جزءاً متوازياً من المعادلة لأن الفلسطينيين كلهم يقعون تحت ربقة استعمار استيطاني، وها هو الكيان يقتل عشرات الفلسطينيين في الضفة والقطاع ومنهم أسرى سابقون تزامناً مع إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين كما أن سلطات الاحتلال تستطيع أن تعيد أياً من هؤلاء إلى معتقلاتها لأنها تمتلك القوة العسكرية التي لا يمتلكها الفلسطينيون الصابرون والصامدون بعقيدتهم وإيمانهم وتشبثهم بأرضهم، بالإضافة إلى أن الولايات المتحدة تقدم كل المال والسلاح لهذا الكيان وتؤيد حرب الإبادة التي يشنّها على الفلسطينيين فهي بالإضافة إلى ذلك تسخّر كل مقدراتها السياسية والدبلوماسية وعلاقاتها مع كل الأطراف من أجل خدمة الكيان الغاصب وتمكينه من الاستمرار في قتل وتهجير السكان الفلسطينيين الأصليين واحتلال الأرض وما بها وما عليها.
والمشكلة الأكبر اليوم هي أن المعتدين والضحايا يتكلمون لغتين مختلفتين لا تتقاطع إحداهما مع الأخرى، فرغم كل المسيرات المؤيدة للشعب الفلسطيني ومبادرات بعض أصحاب الضمائر الحرّة حتى داخل الإدارات الأميركية والأوروبية لإيقاف حرب الإبادة على الفلسطينيين فإن المعتدين لهم خططهم وإستراتيجياتهم التي لا تقيم لحياة الفلسطينيين أو العرب وزناً على الإطلاق فبعد أن أعلن جون كيربي تأييده لاستئناف إسرائيل قصف غزة قال: «نكرر بأن العملية يجب أن تأخذ بعين الاعتبار قيود قانون الحرب بتقليص الضحايا المدنيين»، أي حرب هذه بين حاملات طائرات وغواصات نووية أميركية وقنابل ومدرعات ودبابات من جهة، ومجموعة من المقاتلين المؤمنين بأرضهم وديارهم والذين لا يملكون سوى أرواحهم الطاهرة يقدمونها ثمناً لانتمائهم من جهة ثانية؟! وما معنى تقليص الضحايا المدنيين؟ كم ألف من المدنيين الأبرياء مسموح لهذا الكيان الغاصب أن يقتل وهل قتل المدنيين جزء من قانون الحرب؟
وعلى مستوى آخر لا يعلم المرء ماذا يقول وهو يقرأ مقالاً نشر في «الناشنال إنترست» في 29 تشرين الثاني الماضي بعنوان «التنافس الصيني الأميركي.. الإستراتيجية العالمية ومكانة الشرق الأوسط»، يقول الكاتب: «إن أعمال الصين في الشرق الأوسط لن ترقى إلى أعمال الولايات المتحدة، ليس فقط لأن للصينيين أسلوباً مختلفاً بل لأن أهدافهم مختلفة»، ويضيف: «من غير المحتمل أن ينخرط الصينيون في بناء الدول وهم مرتاحون للعمل مع دكتاتوريين بسجلات حقوق إنسان مشينة»، متى بنت الولايات المتحدة دولاً ومتى ساهمت في بناء دول ومتى اعترضت على دكتاتوريات طالما أنها تخدم مصالحها وتمكنها من نهب مواردها وتسير في ركب قرارها؟ أين هي القيم الأميركية التي يتحدث عنها المقال والتي يدعي أنها تلهم ملايين البشر باتباع حكم القانون وإرادة الناس والانتقال السلمي للسلطات؟ متى عملت السياسة الأميركية على توفير الأمن لدول الشرق الأوسط؟ أولم يشكل استخدام الفيتو في مجلس الأمن أكبر عثرة في تطبيق قراراته بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية وإقامة الدولة الفلسطينية وعودة اللاجئين؟ ومع أن كاتب المقال السفير ديفيد هيل يذكر «مجزرة 7 تشرين الأول» كما يسميها فهو لا يذكر على الإطلاق كل المجازر التي ارتكبتها إسرائيل في غزة والضفة الغربية، على حين حضر وزير خارجية الصين إلى مجلس الأمن ليدعو العالم كله إلى وقف هذه المجازر بحق الشعب الفلسطيني وليقول إن الاستمرار بقتل الفلسطينيين خط أحمر، فكيف نقارن هذا مع تأييد جون كيربي لقرار إسرائيل باستئناف حرب الإبادة على الفلسطينيين العزّل؟
يدعو ديفيد هيل صناع السياسة الأميركيين أن يعملوا على مستويين: الأول هو مواجهة التنافس مع الصين، والثاني هو وضع أولويات التحديات الإقليمية في خدمة المصالح الأميركية، في الوقت الذي يرى الأميركيون في الشرق الأوسط نفطاً وخيرات ومواقع إستراتيجية، فإن الصين تتحدث عن أبناء الشرق الأوسط وعن حياتهم وحمايتهم من الإبادة والتطهير العرقي ولذلك فإني أبشّر السفير هيل أن المستقبل هو لأبناء الشرق الأوسط ولأصدقائهم والمؤمنين بالمساواة بالحياة والحرية مثل الصين وروسيا، وليس للبوارج الحربية والغواصات النووية والقنابل الذكية التي تُلقى عليهم ومليارات الدولارات التي ترصد لقتلهم إمّا بآلة الإرهاب أو بالآلة الصهيونية العنصرية الإرهابية.
لم تعد الولايات المتحدة ترى الشعوب ولا تسمع صوتها ولكن هذا الصوت سيحفر مكانته في قلوب المؤمنين بالعدالة وسيكون هو صوت المستقبل الذي يملأ أرجاء الأرض، وبالمقابل فإن هذه الشعوب لم تعد ترى أو تسمع ادعاءات الولايات المتحدة والغرب عموماً بالديمقراطية وحقوق الإنسان بل بدأت تراها على حقيقتها: قوى استعمارية غربية عنصرية هدفها نهب خيرات الدول والاستيلاء على موقعها الجيوإستراتيجي أو على قرارها السيادي كي تكون تابعة لها وتعمل رهن إشارتها.