أزمة سيـاسيـة
بقلم: أ. د. بثينة شعبان
يمرّ العالم الذي نعيش به اليوم بأزمة سياسية غير مسبوقة منذ عقود تترك آثارها وارتداداتها ونتائجها على حياة البشر وأمنهم ومستقبلهم، فحتى نهاية القرن الماضي كان السياسيون يشكّلون على الأقل ركيزة واضحة من ركائز الجدليات والمعطيات السياسية؛ حيث تتصارع في الفضاء العالمي قوى ذات إيديولوجيات مختلفة أو متناقضة تعمل كلّ منها على إيضاح منهاجها وأهدافها لاستقطاب التابعين والموالين والمؤيدين، وتلعب الشخصيات السياسية ومصداقيتها دوراً مهماً في هذا الاستقطاب ولذلك كانت الأحزاب تسعى إلى تكوين كوادرها ودراسة كلّ مناحي شخصيات قادتها بحيث تتفوق على مثيلاتها من الخصوم، وكانت البلدان تعرّف بأسماء وحضور قادتها الذين اكتسبوا شهرة عالمية لمواقفهم المتوازنة حتى من أعدائهم.
أما اليوم فقد غاب عن الساحة السياسية رجال الدولة الحريصين على مكانتهم، ليس فقط وهم يتبوؤون المناصب العليا وإنما بين الأجيال القادمة وبعد أن يغادروا هذه الحياة والذين يفكرون بإرثهم أكثر مما يفكرون بحياتهم القصيرة هذه، فأصبح من الصعب علينا اليوم أن نسمّي رجال دولة حقيقيين على أصابع اليد الواحدة في العالم، أما ما تبقى منهم فهم يسيئون أيما إساءة للمواقع التي تبوؤوها والألقاب التي حملوها والرسالة التي ينتظر منهم تأديتها بأمانة فتركوا الجماهير المحكومة مذهولة من هول ما يجري، مصعوقة من غرابة الأحداث والعجز المطلق أو الإهمال المفضوح لفعل أي شيء، لتقويم الأحداث بما يتناسب مع العقل والمنطق وبديهيات الحياة الإنسانية التي تحكم عادة تصرفات البشر، وكان كلّ هذا واضحاً لي وجلياً على قسمات وجه أب فلسطيني ينتشل أشلاء أطفال من مدرسة قرب المواصي قصفها الطيران الإسرائيلي فحوّلت أجساد الأطفال الغضّة إلى أشلاء مجهولة الملامح والأسماء، لقد أمسك ببعض منها ورفع البعض الآخر بجسده ويديه المفجوعتين ونظر جانباً، وقال: ماذا نقول؟ لقد قلنا كلّ شيء ولا أحد يسمع أو يرى، فلماذا نقول أي شيء؟ أي إن الكلام قد فقد أهميته وجدواه ومعناه لأنه يقع على آذان لا يسمعون بها وقلوب لا يفقهون بها، وما هو موقف السياسيين الغربيين تجاه مثل هذه الجرائم ضد الإنسانية؟ موقفهم المخزي ضخ المزيد من الأموال والأسلحة لمجرمي الحرب لقتل المزيد من الأطفال بذريعة الدفاع عن النفس.
من ظواهر هذا العالم الذي نعيشه والذي يمكن وصفه بحالة إرباك شديدة لأن السياسة قد فقدت معناها، والسياسيون قد فقدوا مكانتهم ومصداقيتهم، هي أن سياسييّ الدول الصناعية الغربية فشلوا إلى حدّ اليوم في إدانة قتل أطفال خلقهم اللـه على صورته ونفخ فيهم من روحه. بل وبعد أن استباح القاتل المدن والعواصم وارتكب أبشع أنواع المجازر بحقّ الأبرياء وهدّد علناً بإبادة المدنيين منهم، يجتمع أولياء أمور هذه الدول ليعبّروا عن خوفهم من عدم القدرة على حماية هذا القاتل من ردود الفعل، ويفرجوا له في الوقت ذاته عن مليارات الدولارات لاستكمال جرائمه ويرسلون له القنابل المحرّمة دولياً كي يستمرّ بالفتك بالناس والتعذيب والتنكيل المخزي بالأسرى في معتقلات أسوأ من معتقلات النازيّة والأميركية في أبو غريب وغوانتانامو، ويملؤون الإعلام صخباً وضجيجاً عن حماية أمن هذا القاتل من دون خجل أو تردّد.
والأكثر من ذلك أنهم وفي معظم دولهم يحاسبون من يتعاطف مع الضحية ومن يغضب لرؤية كلّ هذا الإجرام ومن يطالب بوقفه، في حين يدعو القاتل إلى تصفية من يشاء ويقوم بتصفية من يشاء، ويستمرّ في إبادة مقصودة ومدروسة من دون رادع أو خوف.
يكمن في جذر هذا كلّه عنصرية متأصلة في أدب وثقافة وممارسات الدول الغربية التي لم تتخلص بعد من إرثها الاستعماري بأن الحياة الإنسانية لغير الغربيين لا تساوي أبداً مثيلاتها من حياة الغربيين، ولذلك فهم يستهجنون ويحاسبون أي غربي يتعاطف مع الضحايا غير الغربية وكأنهم ليسوا جديرين بالمكانة ذاتها التي يتمتّع بها الغربيون، ولكن وكما أنهم لم يستفيقوا إلى خطر الزعيم النازي أدولف هتلر إلا بعد أن دخل الاتحاد السوفييتي بالحرب وقدّم ملايين الشهداء لدرء خطر هتلر، فإنهم اليوم لم يستفيقوا إلى أن هذه العنصرية التي يبنون حساباتهم عليها ستطرق أبوابهم وستأتي لهم بكلّ الأمراض القاتلة التي ظنوا أنفسهم أنهم في منأى عنها، وقد بدأت اليوم تطلّ برأسها في بعض دولهم، وحين تنفلت من عقالها، لن تقتصر سمومها على المهاجرين والملونين بل ستكون الداء الذي لن ينجو منه أحد.
وهم ماضون في تقاعسهم عن تحمّل مسؤولياتهم السياسية والأخلاقية والأممية، يشعلون فتيل الحروب من خلال هذا الاحتلال الفظيع للحكم والعدالة ثمّ يطلبون من رعاياهم مغادرة المنطقة، أي يرسلون البوارج والقنابل والأموال للجناة والقتلة ويصدّرون لهم صكوك التأييد والحفاظ على أمنهم وعدم المحاسبة أبداً على ما اقترفوه، ثمّ يدعون رعاياهم للانسحاب إلى مناطقهم الآمنة في بلدانهم بعيداً عن الحرائق التي أشعلوها بأيديهم والتي انتصروا فيها للإرهاب والإرهابيين والمحتلين والمستوطنين والقتلة والمجرمين، وفي السياق يتمّ اغتيال الأصوات الإعلامية العاملة على إيصال الحقيقة كي لا تخرج من أرض النار ولا تترك أثراً في ضمائر من تمسّكوا بإنسانيتهم وحرصوا على التعبير عنها رغم كلّ التهديد والابتزاز والاستهداف.
هؤلاء الباقون هنا والقابضون على الجمر والذين يدفعون أبناءهم وشهداءهم ثمّ يسجدون على هذه الأرض الطاهرة مجددين الالتزام بها وبحرمتها وأمنها والدفاع عنها، هؤلاء يعيشون بمنظومة قيمية وأخلاقية وسياسية لا صلة لها بممارسة الغرب وصنيعته الصهيونية بحقّهم. يعملون من أجل إرث الأجيال ومن أجل استمرارية الأمانة التي حملوها منذ نعومة أظفارهم مؤمنين أن عدالة قضيتهم هي التي سوف تنصرهم على العدوان والإجرام، وكيف لا وهذه هي أرضهم وهذا هو تاريخهم وهنا يعملون من أجل مستقبل من تبقّى من أبنائهم.
ألا يشعر هؤلاء السياسيون بالخجل وهم يدعون مواطنيهم لمغادرة الديار التي أشعلوا فيها حرباً؟! ألا يخجلون من أبناء هذه الديار ومن نظرات أهلها وأطفالها ومسنّيها إلى ما اقترفوه بحقّهم ثمّ ارتكسوا إلى جحورهم غير آبهين بما يمكن أن يحصل خارجها؟ لا شكّ أبداً أن الأزمة السياسية وأزمة القيادة بالذات التي يعيشها الغرب اليوم، هي جذر كلّ الأزمات التي نعاني منها نحن اليوم، سواء أكانت اقتصادية أم أخلاقية أم مجتمعية، والمشكلة اليوم هي أن هذا الغرب الذي يعيش بالفعل أزمة بنيوية خانقة يقفز فوقها ويتجاهلها ويكابر عليها ويعمل من خلال السلاح والمال والإرهاب على إثبات قوته وسطوته وقدرته على الانتصار للإرهاب والإرهابيين وترويع من تسوّل له نفسه بالخروج عن حدود طاعته.
لو تدارسنا كلّ ما يجري في عالمنا اليوم من غزّة وفلسطين إلى فنزويلا وكولومبيا وأميركا اللاتينية إلى دول الساحل الإفريقي إلى المغرب العربي إلى بحر الصين مروراً بأوكرانيا، لوجدنا أن منطلق هذه الفتن والحروب هو المحاولات اليائسة للمركزية الغربية على الاستمرار في مقعد القيادة بعد أن فقدت كلّ المقوّمات السياسية والأخلاقية والأممية وبقي فقط لديها تفوّقها العسكري وامتلاكها الأسلحة الفتاكة والمال واستعدادها لوضع كلّ ما تملك من هذا وذاك من أجل استمراريتها، ولكنّ التاريخ حكم سلفاً ومرّات عديدة أن الإمبراطوريات لا يمكن أن تستمرّ بالمال والسلاح فقط، وأنّ انهيارها الأخلاقي والسياسي والمجتمعي هو نذير أكيد على انهيارها الحتميّ القادم من دون تأخير.