أيتام كارثة الزلزال بين «كفالة اليتيم» و«فزاعة التبني».. هل تقول الجمعيات الغربية كلمتها؟
بقلم: فراس عزيز ديب
نسمَع كثيراً عن تُجار الأزمات، تُجار الحروب، لكننا في سورية وبسببِ شباط الأسود وما حدث لأهلنا في اللاذقية وإدلب وحماة وحلب من كارثةٍ بفعل الزلزال المدمِّر الذي ضربهم، بتنا ولله الحمد نسمع ولأول مرة في تاريخِنا الحديث عن «تُجار الزلازل»، مع التأكيد هنا أن هذا التوصيف ليسَ موجهاً فقط لطبقةٍ تسرَح وتمرح على هواها بتقاضي ما تشاء من أسعارٍ من دون حسيبٍ أو رقيب، ولا عن طبقةِ حيتانٍ تحتكر ما شاءَت لها أقدار المحسوبيات من وارِدات، لكننا اليوم نتحدث عن تاجرٍ جديد لم نتعرف إليه سابقاً بهذه الصورة المباشرة، ألا وهو تلكَ الجمعيات الغربية التي بدأَت تنشط في المناطق الشمالية وتركيا بحثاً عن أطفال للتبني.
تقول الحكمة الشهيرة: الفراغ دائماً ما يحتاج إلى من يملؤه، لكن في الحروب والكوارث كتلكَ التي زارتنا في السادس من شباط الماضي، يزدَاد حجم هذا الفراغ إلى الحد الذي يتطلَّب منا الكثيرَ من الليونة القانونية والرشاقة الفكرية لتداركِ ما يمكن تداركه، لأن التباطؤ سيمنَح الفرصة لغيرنا كي يكون البديل لملءِ هذا الفراغ، ومن بين هذهِ الكوارث مسألة الأطفال الذين فقدوا عوائلهم، وبالتحديد موضوع التبني.
منذُ إعلان الكارثة كانَت العين موجهة إلى الأطفال الذين فقدوا أهاليهم وعن المصيرِ الأسود الذي ينتظرهم، هنا بدأت العديد من الجمعيات الأوروبية ومن بينها جمعيات دينية تتبع لكنائسَ مستحدثة، الإعلان عن دعواتٍ إنسانية لتبني الأطفال، الأمر لم يقتصر على ذلك، حتى بعض المشاهير العرب دعوا لتبني أطفال سوريين، واللافت أن البلدان التي ينحدر منها هؤلاء، تحتوي على أيتام ومشردين أكثر بعشرات الأضعاف مما فقدته سورية من ضحايا في هذه الكارثة، فهل باتت القصة تجارة؟! بالتأكيد كانت العين ولا تزال على الأطفال في المناطقِ الخاضعة لسيطرةِ الجماعات الإرهابية، إذ إن المناطق التي تسيطر عليها الدولة السورية لا يمكِن لهكذا أشياء أن تحدث بسهولة وربما ما حدثَ مع الطفلة «آية» التي ولدتها أمها رحمةُ اللـه عليها تحت الأنقاض، خير دليلٍ عن الفراغ الذي نتحدث عنه، تحديداً عندما قامت عصابة مسلحة بالهجومِ على المشفى لسرقةِ الطفلة، بعد توارد معلوماتٍ عن تلقيهم عروضاً مالية كبيرة من إحدى الجمعيات الغربية للحصول عليها، هذه الجمعيات وغيرها تجد اليوم الفرصة سانِحة للدخولِ بهكذا مزادات، لكن هناك من سيسأل: وما المانع من قيام هكذا منظمات بتبني الأطفال طالما أن قانونهم المحلي يسمح بذلك؟
لا أحد يمكنهُ أن يمنع الجانب الإنساني أن يأخذَ حيزه في مثل هكذا كوارث، لكن هذا الحيز الإنساني واسع ومتشعِّب وقد يكون واجهات لما هو أسوأ، ولكي تتضح الصورة أكثر دعونا مثلاً نعود إلى ما قبل العام 2013، عندما كان السِّجال القانوني في فرنسا حامي الوطيس قبل إقرار قانون السماح بزواجِ الشواذ تحديداً في الفقرة التي تتحدث عن حق الزوجين الشاذين بالإنجاب أو بالتبني، كانت هناك معارضة شديدة لجهةِ السماح للزوجين بتبني طفل، كانت حجة المعارضين إنسانية وأخلاقية، فهذا الطفل وُلدَ لأبوين طبيعيين لكنك تأخذه من دون إرادتهِ لتضعهُ في ظروفٍ عائلية مغايرة للواقع الذي وُلدَ فيه، تضعهُ في ظرفِ خارج عن السياق الطبيعي لنموه الجسدي وميوله المستقبلية لدرجةٍ لا يعرف فيها أيهما والده أو والدته، هذا بالمبدأ الإنساني جريمة بحق هذا الطفل، وعندما نتحدث عن جرائم بحق الطفولة فلأن وضع الحالة الإنسانية جانباً سيعود بنا إلى تقريرٍ وضعه منتدى الطفل الإفريقي قبل صدور هذا القانون بعامين تحدث صراحةً عن أن حالات التبني من الدول الإفريقية ما هي إلا نوع من التجارة بعيداً عن رفاهية الطفل، محذراً من أن التبني يجب أن ينطلق أولاً من البحث عن عائلة للطفل في بلدهِ الأصلي ودعمها إن كان الهدف فعلياً مصلحة الطفل، ليصل التقرير إلى النقطة الأهم وهي اتهام دور الأيتام بتلقي نحو 30 ألف دولار عن كل طفل يتم تسهيل تبنيه!
ما تقدم هو أيضاً وصل برداءِ الجانب الإنساني مع التركيز هنا على فكرةِ الارتفاع غير المسبوق بزيجات الشواذ وهم بغالبيتهم العظمى بحاجةٍ لأطفال، بذات السياق فإن وصول الطفل إلى الجمعية التي تتبناه يعني أنها أصبحت مسؤولة عنه ولا يحق لأحد معارضةَ مصيره النهائي، بالمناسبة هذا الأمر يحدث حتى عندما تقرر محكمة العائلة في بعض الدول الأوروبية منع الأبوين من تربيةِ طفلهما بسبب عدم الأهلية (تعاطي، إدمان، عنف ضد الأطفال) هنا تقوم الجمعية بمنح حق تربية الطفل لأول اسم في جدول الأسماء للراغبين بتبني أطفال بعدَ موافقتهم، هنا يصبح السؤال الأهم: كيف يمكننا ملءَ هذا الفراغ؟
دائماً ما تأخذنا هكذا أفكار إلى مواضعَ تبدو أشبهَ بحقلِ ألغام لأننا غالباً ما نصطدم عند مناقشتها بالكثير من العوائق التي يضعها أولئكَ الذين يظنون بأن اللـه لم يهدِ سواهم، على هذا الأساس لا يمكن لنا مجابهةَ سلاح التبني بالتبني لأن قوانينا لا تجيزه لكنها تجيز ما يسمونه «كفالة اليتيم»، بالسياق ذاته لن أُسهبَ كثيراً في شرح الآية القرآنية التي حرَّمت كما يقول البعض موضوع التبني، لستُ عاجزاً لكن هذا ليس وقت السجال! بل ما سأقوله بسيط جداً: إن البحثَ عن الفرق بين توصيف كفالة اليتيم والتبني يقودنا إلى اختلافٍ واحد وهو أن التبني أجازَ (لم يفرض) قيام المُتبني بمنح اسم العائلة للطفل، فيما كفالة اليتيم منعت هذا المنح، قد يبدو هذا المنع بظاهرهِ منطقياً كما يردد من يتبناه خشيةَ ضياع النسب، ما قد يعني زواج الطفل من شقيقته أو ضياع حقوق الميراث عند غيرِ مستحقيها، لكن هكذا توصيفات تبدو منغلقة على نفسها، من قالَ إن منح اسم العائلة للطفل سيضيع نسبه؟ فالقوانين الفرنسية مثلاً تُجبر العائلة على الاحتفاظ بنسب الطفل الأصلي، أما ما يخشاه البعض بأن ضياع هذا النسب قد يؤدي لزواج الأخت من أخيها فهو تبرير مضحك والإجابة عنه بسيطة: وما أدرانا بأن مجهولي النسب الذين تم الاعتراف بهم لن يقعوا بهكذا محظور؟
على هذا الأساس لا يبدو الفارق كبيراً بين فكرتي التبني والكفالة، بل ولأكون صريحاً أكثر يبدو هذا الفارق هو من صنع النقل المتقدم على العقل، بهدف التمايز عن الآخر لا أكثر، هو كمن يتغنى بأن ديننا يحب «إن عملَ أحدٌ منا عملاً أن يتقنه»، حسناً ومن قال مثلاً: إن البقية يحبون إن عملَ أحد ما عملاً ألا يتقنه؟! لكن هذا الوقت ليسَ وقتَ تمايزٍ، وليس وقت الدخول بوصفات فقهية هي أشبه بسراديب لانهايةَ لها، المشكلة عند البعض عدم القدرة على ابتكار حلول وسط، دائماً ما علينا أن نكون بسببهم إما بين تحجر تقديم النقل على العقل، أو فوضى الليبرالية الاجتماعية المتوحشة، هناك حلول وسط لأننا قادرون ببساطة أن نستخلصَ من إرثنا الاجتماعي والإنساني قانون تبنٍ خاص، ليبرالية خاصة، كما استخلصنا الديمقراطية التي تخصنا وتناسبنا، تجارب الآخرين ليست رجساً من عمل الشيطان، هذه نرجسية قاتلة، من دون أن ننسى بأن الفراغ يكبُر كما فراغات كثيرة كنا نغض الطرف عنها، حتى باتت كحبلِ مشنقة حول أعناقنا، أطفال سورية أمانة في أعناقنا فما بالك بمن لا ذنبَ لهم حتى أصبحوا من دون عائلة؟ بالوقت ذاته هناك عوائل كثيرة حُرمت من الأطفال لأسباب كثيرة، لا اعتراضَ على حكم اللـه، لكنهم حكماً سيكونون كما نتمنى تجاهَ هؤلاءِ الأيتام، القضية لا تحتاج فقط إلى تسهيل إجراء التبني بل تحتاج أيضاً إلى تقديم مساعدات لكل الراغبين بذلك عبرَ تشريعاتٍ حديثة تتوافق مع كل المتغيرات، وإلا سنشاهد أطفال سورية قريباً على لوائح العوائل الراغبة بالتبني في الدول الأوروبية، عندها إياكم أن تلعنوا إنسانية الغرب المزيفة!