إدلب كملف مؤجل
بقلم عبد المنعم علي عيسى
قبيل توجه الوفد الروسي الموسع إلى دمشق مطلع شهر أيلول الجاري لإجراء سلسلة محادثات تناولت جل الملفات الساخنة بل تلك الفاترة والباردة أيضاً، زار وفد تركي موسكو للوقوف على آخر المستجدات في ملف إدلب، وآفاق تطبيق الاتفاق الروسي التركي الموقع في شهر آذار المنصرم مطلع هذا العام.
ما تسرب عن تلك المحادثات التي أجراها الأتراك في موسكو كان شحيحاً، إن لم يكن شبه معدوم، إلا أنه من الممكن الاستدلال عليه عبر الطروحات التي جاء بها الروس إلى دمشق فيما يخص ملف شمال غرب سورية عموماً وملف إدلب على وجه الخصوص، وفي أتونهما العلاقة السورية مع نظام أردوغان راهناً وما يمكن أن تكون عليه في المستقبل.
جاء الروس إلى دمشق بحالة توحي إلى تقارب هو الأوسع بينهم وبين الأتراك، فيما يخص ملف إدلب، منذ بروز هذا الأخير كخنجر في خاصرة دمشق إبان سيطرة «جيش الفتح»، الذي مثل آنذاك حالة تلاق سعودية تركية نادرة، على هذي الأخيرة أواخر شهر آذار من عام 2015، ففي أعقاب الاستهدافات الحاصلة على طريق حلب اللاذقية للدوريات الروسية التركية المشتركة على هذا الطريق الأخير، فرضت كما يبدو حالاً من التقارب بين أنقرة وموسكو، الأمر الذي أظهره الإعلان عن مناورات مشتركة كانت تحاكي صد هجوم يمكن أن تتعرض له تلك الدوريات على «إم 4» على نحو ما حصل لمرات عدة في منتصف وأواخر شهر آب المنصرم.
هذا الأداء الروسي التركي يشي بأن ثمة اتفاقاً روسياً تركياً مرحلياً، بمعنى أنه لا نهائي، فرضته الضرورة، وهو يقضي بتثبيت ملف إدلب راهناً عند فتح طريقي حلب اللاذقية وحلب دمشق، بانتظار المزيد من المفاوضات للتقدم نحو حلحلة ملف الشمال الغربي من سورية، والراجح هو أن ذلك الطرح هو ما حمله الروس إلى دمشق فيما يخص ذلك الملف، إلا أن المحادثات الروسية السورية كانت قد أبدت افتراقاً في المواقف بين دمشق وموسكو فيما يخص هذا الأخير، والافتراق عينه أيضاً كان ملموساً في ملف شرق الفرات وطريقة التعاطي مع «الإدارة الذاتية» القائمة كسلطة أمر واقع في تلك المنطقة بدعم إسنادي أميركي يبدو أنه زائل قريباً بحكم الرؤية التي تتبناها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تجاه وجودها العسكري في سورية والعراق وكذلك أفغانستان.
بعد مرور عشرة أيام من محادثات الروس في دمشق جرت محادثات روسية تركية في أنقرة يوم الثلاثاء 15 أيلول الجاري، وهي لم تفض من حيث النتيجة إلى توافق بين الطرفين حول مطلب أساسي حمله الروس إلى تلك الاجتماعات، ويقضي بتقليص الوجود العسكري التركي في إدلب ومحيطها، إلا أن وسائل إعلام تركية مقربة من السلطة، كانت قد أشارت إلى استعداد أنقرة مناقشة سحب جزء من أسلحتها الثقيلة من تلك المنطقة، وكنتيجة فقد رد الروس برفض تسيير دوريات مشتركة مع الأتراك على طريق حلب اللاذقية كما هو مقرر، ولم يقتصر الرد الروسي على ذلك الرفض، بل تعداه إلى قيام مقاتلات روسية بقصف مواقع لتنظيمات متطرفة مثل «خطاب الشيشاني» و«أنصار أبي بكر الصديق» المتهمين في تنفيذ الهجمات السابقة الذكر على الدوريات المشتركة، والقصف نال من محيطي قريتي باتنتا والشيخ بحر شمال إدلب.
ما يلحظ على الأداء التركي الراهن في إدلب هو النأي بالنفس عن صراع الفصائل المسلحة المتطرفة القائم على الزعامة وتثبيت النفس على قاعدة «الأمر لي»، وهي على الأرجح تريد الانتظار إلى حين حسم ذلك الصراع الذي قد يطول أمده، لكنه إذا ما حصل فإنه سيسهل على أنقرة التعاطي مع قوة واحدة بعيداً عن التعاطي مع قوى عديدة تختلف في رؤاها وأهدافها ومصالحها وإن كانت تتفق في الإيديولوجيا وفي القماش الذي يخرج منه خطها السياسي.
مجمل الصورة السابقة يدفع إلى العديد من الاستنتاجات، لكن الأهم منها هو أن ملف إدلب بات مؤجلاً لوقت تحدده التطورات الداخلية، أي داخل التنظيمات المتطرفة، وكذا بنظيرة لها يمكن أن تسجلها التطورات الإقليمية في تلاقياتها أو افتراقاتها في ملفات عدة أبرزها الملف الليبي وكذا ملف الغليان في بحر إيجة وشرق المتوسط الذي لا يزال جمره متقداً تحت الرماد، وصولاً إلى الاشتباكات الساخنة التي اندلعت بين أرمينيا وأذربيجان في إقليم ناغورني قره باغ.