الاغتيالات المتنقلة بين الانكشاف والاختراق تحتاج إلى قراءة واقعية للأحداث
مما لاشكَّ فيهِ أن ما جرى في لبنان خلال الأيام الماضية لا يحتاج الحديث عنه إلى مقدمات، بل إن التعاطي مع الحدث الجلل الذي أدى إلى استشهادِ وجرح الآلاف، قلة قليلة منهم لا تتعدى العشرات يحملونَ صفاتٍ غير مدنية، إن كان عبر الاستهداف التقني أو بالاستهداف المباشر الذي طال عماراتٍ سكنية في قلب العاصمة بيروت، يحتاج إلى الكثيرِ من الهدوء والروية، لأنك بلا شك كمن سيسير عبرَ كلماته بين حقلِ ألغام لا تعرف متى سينفجر بك، بالوقت ذاته يحتاج من سيقرأ إلى سعةِ صدر، لأننا نعرف إلى أينَ أودَت بنا المجاملات، ونعرف بالسياق ذاته أن القفزَ فوق الحقائق عبرَ شعاراتٍ لا تصلح لكل زمانٍ ومكان، هو انتحار، لأننا اليوم لسنا في زمن السيف والناقة، بل أمام حقائق أوصلت المقاومة وأوصلتنا إلى هذا الخرق غير المسبوق من قبل دولة الإجرام الصهيونية، باختصار نحتاج إلى التفكيرِ بطريقةٍ مختلفة، هذه الطريقة تستند إلى إعادة تقييم الأحداث بتراتبيةٍ متناسقة ومترابطة تجعلنا نُعيد استقراء الكثير من المغالطات.
كانت المقاومة اللبنانية حتى الأمس القريب تتباهى بالقدرةِ على إدارة شبكات الاتصال الخاصة بها بطريقة جعلت كوادرها بعيدة كل البعد عن الاختراق، يوماً ما جنّد العدو كل أدواتهِ في الداخل اللبناني لاستصدار قرارٍ في مجلس الوزراء بمصادرة شبكة الاتصال حتى لو كان الثمن حرباً أهلية، لكن المقاومة يومها أفشلت المشروع.
هذه الجدية إلى حد التطرف بالتعاطي مع خصوصية شبكة الاتصال، جنَّبت المقاومة عبر الزمن، الكثير من العواقب، تحديداً بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، ورغم السعي الإسرائيلي المتكرر لاستهداف شخصيات فاعلة في المقاومة واصطدامها بقوة الجهاز الأمني للمقاومة، إلا أنها تمكنت من اغتيال القائد البارز في المقاومة، عماد مغنية، هناكَ من برَّرَ يومها العملَ بوجودِ عملاءَ سوريين تعاطوا مع الكيان، وكشفوا موقع مغنية لكون الاغتيال تم في دمشق، مع العلم أننا يومها، لو أجرينا استقصاء، لما عرف أغلبية الشعب السوري من هو عماد مغنية وأين يقيم!
كان هناك من يحاول إبقاء جانب المقاومة أو أطرافاً أخرى تدعمها، بريئاً من الاختراق، وكانت دمشق مكسر العصا، لكن ومنذ حرب تموز بقيت الحرب بين الكيان والمقاومة في حالةِ كمونٍ قسري فرضته التوازنات الإقليمية، فلم تشهد الجبهة عملياتَ اغتيالٍ جديدة ضماناً لحالة الهدوء التي فرضتها هدنة ما بعد حرب تموز، هذا كله كان يجري والكيان الصهيوني يعمل كل يوم على ملف الخرق الأمني للمقاومة، هذا السعي كان باتجاهين تقني، أي عبر الولوج إلى شبكات الاتصال الخاصة بالحزب، وبشري عبر تجنيد العملاء.
نبدأ من الحالة البشرية، فقد نجح العدو بتجنيدِ الكثير من العملاء بعضهم كانوا من أبناءِ بيئة المقاومة، وهذا طبيعي وموجود وفق المغريات المقدمة، لكن ما ليسَ طبيعياً أن يكون تكراره، وهو الذي أدى إلى خسائرَ كبيرة تحديداً في سورية ولبنان، لم يحتم إعادة النظر بالكثيرِ من التفاصيل التي تبدو للبعض عادية، لكنها ببساطة لم تكن كذلك بالنسبة للعدو الذي يعرف تماماً كيف يستغلها، نحن هنا لا نتحدث فقط عن بيئة المقاومة بل نتحدث عن الإطار الأبعد أي المعطى الإقليمي، فكيف ذلك؟
منذ مقتل قائد لواء القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني والذي تزامن مع الكثير من الاغتيالات لشخصيات مُقاومة، كان الحديث يتكرر عن الطريقة التي تمكن عبرها العدو من الوصول إليهم، عند اغتيال سليماني هناك من عادَ ووجّه أصابع الاتهام لشبكة تجسس في مطار دمشق، كالعادة ابتلعت دمشق هذه التخريصات احتراماً للحدث، علماً أن التحقيقات أثبتت أن هذهِ المعطيات كلها شائعات لا معنى لها نشرتها بعض المواقع ذات التوجه المعروف لإخماد نار الاحتقان في إيران ضد هذا الخرق الأمني، لكن منذ النجاح باستهداف سليماني وما يعنيه وجود هذا الرجل والردود الهزيلة على استشهاده، هل فكرنا بإحصاء عدد الشخصيات التي تم اغتيالها؟! نعود ونذكِّر بأننا لا نتحدث هنا عن عمليةِ اغتيالٍ تقليدية على طريقة اغتيال الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات أو الرئيس الأميركي الأسبق جون كينيدي، نتحدث عن عمليات اغتيال بطريقة توحي بأن من نفذها يعرف أدق التفاصيل عن الضحية، وبدلَ الوقوف على المسببات بطريقةٍ واقعية، حاولت الكثير من الجهات التعمية عن حقائق كان لا يجب التعمية عليها، سنذكر هنا المثال الأهم وهو مقتل الرئيس الإيراني السابق ابراهيم رئيسي ووزير خارجيته أمير عبد اللهيان.
عندما جرى الحديث عن اغتيال بخرقٍ أمني باعتبار أن المروحية المستخدمة صناعة أميركية، هناك من تركَ الحدث الجلل وراح يبرِّر وجود المروحية الأميركية بأنها من مخلفات نظام الشاه السابق ولا يوجد لها قطع تبديل، ما يعني إمكانيةَ حدوثَ خلل فني أدى إلى ما أدى إليه، لكن المعلومات أثبتت أن الطائرة الحديثة قد حصلت عليها إيران بصفقة تبادل الأموال المجمدة في الولايات المتحدة ببضائع أميركية بعد توقيع الاتفاق النووي في العام 2015! هذا الاتفاق الذي قال عنه وزير الخارجية الإيراني السابق المعروف بقربهِ من الغرب جواد ظريف، بأنه سعي لمبادلة الدبلوماسية بالميدان، وهي تصريحات اعتُبر تسريبها يومها إهانة لدماء قاسم سليماني!
حسناً، لكن هذا ليس كل شيء، فعندما تمت مهاجمة السفارة الإيرانية في دمشق كان شكل الاستهداف وتوقيته مثيراً للاهتمام، بمعنى أن هذهِ الجريمة النكراء لم تكن استهدافاً لمجردِ الاستهداف، بل هي بتوقيت وُجد فيه عدد من المستشارين العسكريين الذين تعتقد إسرائيل بوجود دور لهم في تنمية قدرات المقاومة اللبنانية، هذا الخرق على أهميته لا يقل عن الخروقات التي حصلت في الضاحية الجنوبية لبيروت، وكالعادة فإن عدم الردود أو لنكن واضحين أكثر، انتهاج فكرة الردود المُتفق عليها، جعلت العدو ينتقل إلى سياسة التخلص من الأعمدة الأساسية للمقاومة حيثما وأينما وجدوا، نحن نتحدث عن قيام العدو بتحديد مكان اجتماع لقيادات في قوة الرضوان الذراع الحديدية للمقاومة، في مدينة مكتظة كبيروت وضاحية أكثر اكتظاظاً كالضاحية الجنوبية لبيروت، الاستهداف كان دقيقاً لأبعد الحدود، السؤال هنا ليس عن عدد الضحايا، السؤال كيف تمكن العدو من الوصول إلى الهدف؟ هل هناك من سيتحدث كذلك الأمر عن وجود خرق في الأجهزة الأمنية السورية؟!
أما في الجانب التقني فإن وصول هذه الأجهزة إلى يد عناصر من المقاومة ألا يجب أن يثير الكثير من التساؤلات؟! فالحزب معروف عنه بدقة التعاطي التجاري والعسكري ولا يمكن له أن يتورط تورطاً كهذا، والسؤال هنا: من أين أتت هذه الأجهزة؟ وحدها المقاومة تملك الجواب، قد نقول إن الصورة المنشورة للرئيس الراحل إبراهيم رئيسي وبقربهِ الجهاز ذاته هي صورة غير دقيقة، لكن ماذا عن إصابة السفير الإيراني في بيروت بهذا الحادث؟ مع التأكيد أن فكرة تفخيخ البطاريات هي رواية غبية، حتى لو تجاوزت كمية المتفجرات كل المطارات، كيف تجاوز جهاز كشف المتفجرات السفارة؟ لكن يبدو أن من سرّبَ أرقام الأجهزة يعرف حتى مستلميها ولا يهمه من سيكون الضحية حتى لو كان السفير الإيراني في بيروت نفسه، ببساطة نحن لا نتحدث عن خرق نحن نتحدث عن انكشاف له تبعات لا يمكن الاستهانة بها فماذا ينتظرنا؟
دعونا نتفق بأن الجانب الإسرائيلي اليوم يعيش أفضل أيامه بعد العمليتين النوعيتين مهما حاول البعض تقزيم هذه الجريمة، لكن بالسياق ذاته دعونا نتفق بأن التعاطي مع كل هذه الأحداث ببيانات الشجب والإدانة هو كلام لا معنى له، لكن بذات السياق من حقي كصحفي بعد كل هذا الانكشاف أن أكتب من باب خوفي على من يمثلني في بلدي، حتى لو كان هناك من لا تعجبه هذه الأسطر فهذا شأنه، دعونا نتفق بأن عدم التعاطي الجدي مع هذا الانكشاف بما فيه توسيع الصورة قليلاً سيعني أننا سنعيد ونكرر الأخطاء ذاتها مع فارقٍ بسيط، في السابق كان العدو ملجوماً بلجامِ التهدئة، اليوم هو كالكلب المسعور لن يتوقف وفق ما يشعر به من فائض قوة، حيث الغرب كله يدعمه بما في ذلك للقيام بعملية اجتياح برية للبنان تبدو في لمساتها الأخيرة، نحن فعلياً أمام مفترق طرق، وربما نحن من أوصلنا أنفسنا إلى هنا، فالقفز عن الحقائق لم يعد يجدي نفعاً، وربط كل ما يجري بأحداث عمرها قرون، بات كلاماً يجعل البعض ينفر من كل ما يجري والأهم عدم النظر بواقعية للطموحات والتحالفات كُلفتهُ تدمير أوطان، ولنتذكر بأن أربع عواصم عربية وحدها في قلب المعركة مباشرةً، دمشق وصنعاء وبيروت والقدس والباقي في هذا الإقليم مجردَ مصفقين أو منددين.. ألا هل مصغٍ؟
كاتب سوري مقيم في فرنسا