الحكومة بين التحدي والمسؤولية: هل تعود الحياة إلى الريف الثائر؟

في أكبر حاضنة شعبية وقفت خلف مشروع الثورة منذ بداياتها، وساندت مؤسساتها الوليدة، وفي مقدمتها الحكومة السورية المؤقتة برئاسة السيد أحمد الشرع، يُطرح اليوم سؤال جوهري ومؤلم: هل لا يزال التحدي ممكناً؟ وأيّ تحدٍّ أعظم من إعادة إعمار الريف السوري الممتد من كفرحمرة شمالاً إلى خطاب جنوباً؟ ريفٌ حمل على أكتافه عبءَ الثورة، ثم دفع ثمن هذا الانحياز هدماً وتهجيراً ونهبًاً ممنهجاً.
ليست الكارثة فقط في تهجير قرابة مليونَي إنسان إلى خيام النزوح، بل في أن قلة قليلة فقط منهم استطاعت العودة. أما البقية منهم، فما زالوا ينتظرون سقفاً يحميهم بعد أن نُهبت منازلهم، وسُرقت حديديات الأسطح، وبيعت على أرصفة التعفيش، بينما أُحرقت كروم التين، واقتُلعت أشجار الزيتون، وسُرقت أعمدة الكهرباء وردمت آبار المياه. كل ذلك جرى تحت عين ويد لصوص الطائفة الأسدية، الذين لم يكتفوا بالسيطرة، بل أرادوا أن يُمحوا الحياة من هذه الأرض.
ومع ذلك، ما زالت الحاضنة الشعبية – بكل ما تحمله من أوجاع ووفاء – تتحدث بلغة الصبر. تقول: “نصبر كما صبرنا في الخيام”، لكنها اليوم تسأل: إلى متى؟ وهل الحكومة المؤقتة – رغم محدودية إمكانياتها وتحدياتها الكبيرة – قادرة على فتح باب الأمل وإطلاق مشاريع تعيد الناس إلى ديارهم؟ هل تملك الأدوات؟ هل تملك الشراكات؟ هل هناك خريطة طريق حقيقية لإعادة البناء؟
الحقيقة أن حكومة السيد أحمد الشرع ورثت ملفاً ثقيلًا، مملوءاً بالتعقيدات، ولا أحد يملك عصًا سحرية لحل معاناة الملايين. لكن في المقابل، لا يُنتظر منها أن تكون عاجزة أو صامتة. الناس يريدون أن يروا تحركًا، خطة، خطوة جادة، حتى وإن كانت متواضعة. يريدون أن يصدقوا أن أحداً يعمل من أجلهم، لا من أجل الصورة أو المؤتمرات.
الناس لا يحتاجون إلى وعود، بل إلى حفر أساس أول حجر، وتركيب أول عمود كهرباء، وتنظيف أول بئر ماء. ليس المطلوب معجزات، بل بداية تردّ الاعتبار لهؤلاء الذين صبروا في الخيام، وتحملوا لهيب الصيف وبرد الشتاء، وهم يرفعون راية الثورة، ويعلّقون آمالهم على حكومتهم.
مسؤوليات المرحلة القادمة: من الشعارات إلى الأفعال
البداية لا تحتاج إلى لمسات سحرية أو إمكانيات خارقة، بل إلى إرادة حقيقية وخطوات أولى على الطريق. يكفي أن نبدأ بخطوة واحدة – صغيرة لكنها صادقة – لتفتح الباب أمام خطوات أخرى. ترميم بئر ماء، إعادة تأهيل مدرسة، إطلاق مشروع سكني تجريبي، أو بناء محطة كهرباء بسيطة… كلها رسائل أمل تعيد إلى الناس شعورهم بأن هناك من يعمل من أجلهم، وأن الحلم لم يمت، وأن الثورة لم تُنسَ.
لم يعد من المجدي أن نبقى أسرى الشعارات الكبيرة والخطابات الرنانة. المرحلة القادمة تتطلب تحركاً مسؤولًا، يتجاوز لغة العزاء والوعود، نحو فعل واقعي ملموس. المطلوب من الحكومة السورية المؤقتة برئاسة السيد أحمد الشرع أن تضع معاناة هؤلاء المهجرين في صدارة الأولويات، لا كمجرد ملف إنساني، بل كقضية وطنية وسياسية تمسّ جوهر الثورة ومصيرها.
البداية لا تحتاج إلى معجزات، بل إلى نيات صادقة وخطوات عملية. ترميم بئر ماء، إعادة تأهيل مدرسة، إطلاق مشروع سكني تجريبي، بناء محطة كهرباء بسيطة… كلها رسائل أمل قد تعيد ثقة الناس بمشروعهم الوطني، وتذكرهم أن حكومتهم تقف معهم، لا فوقهم.
الناس تعبوا من الانتظار، لكنهم لم يفقدوا الإيمان. وما زالوا يملكون القدرة على الصبر، إن رأوا من يشاركهم هذا الصبر بالعمل لا بالكلام. ومن هنا، فإن المسؤولية لا تقع على الحكومة وحدها، بل على جميع المؤسسات الثورية، وعلى كل من يحمل همّ هذه البلاد.
فالعودة إلى البيوت ليست مجرد عودة إلى الحجارة، بل عودة إلى الجذور، إلى الثورة، إلى الكرامة التي من أجلها خرج الناس وتركوا كل شيء خلفهم. وإذا عجزت السياسة عن إعادة المهجرين، فلتفعل ذلك الإرادة. وإن ضاقت الأبواب، فلتُفتح النوافذ. المهم ألا تبقى الخيمة قدراً أبدياً، ولا يبقى المهجّر متروكًا في العراء.
وهنا، تأتي مسؤولية السوريين في الخارج، أولئك الذين حملوا الوطن في قلوبهم أينما ذهبوا. إنهم قادرون اليوم، بما يمتلكونه من خبرات وعلاقات وقدرات، أن يساهموا في إعادة الحياة إلى الريف الثائر. فليكن لهم دور في بناء المدارس، في دعم مشاريع المياه، في تمويل مبادرات الطاقة، أو حتى في إيصال صوت الناس للمنظمات الدولية. الوطن ينادي أبناءه – كل أبنائه – ليعيدوا الأمل إلى من لا يزالون صامدين في الخيام، ينتظرون عودة الحياة، وعودة الكرامة.
الوطن – بلال الخلف