الزواج السياسي بين ماكرون ولوبين.. هل يختار اليسار المتمرد شلَّ البلاد؟
فراس عزيز ديب
بعيداً عن اللغة الأكاديمية التي لا أحبذها كثيراً، ماذا لو سألنا عن جوابٍ بسيط يكون قريباً من القارئ أياً كان مستوى اطلاعه لسؤال غالباً ما يتردد في حياتنا اليومية: ما الفرق بين الأنظمة الديمقراطية والأنظمة الديكتاتورية؟
في النظام الديكتاتوري لا يحق لكَ الاعتراض، وسنفعل كجهة حاكمة ما نريد، أما في النظام الديمقراطي فيعطوكَ الحق بالاعتراض، لكننا سنفعل كجهةٍ حاكمة ما نريد، في الحقيقة كانت هذه المقاربة إلى وقتٍ قريب أشبهَ بالنكتة، لكن توالي الأحداث في هذا العالمِ الملتهب أدى لسقوطِ ورقة التوت عن أغلب تلك الأنظمة التي يصنفونها ديمقراطية، بل وكشفت بأن النكتة السياسية هي أصدق ما قيلَ في الأدب السياسي لكونها في الأساس حقيقة تم تغليفها بابتسامةٍ ما كي لا تعزل صاحبها أو تجعلهُ منبوذاً لا يكترث بوهنِ عزيمة الأمة، هذا لا يعني بأن الأنظمة الأخرى بحالٍ أفضل وهذا من باب الموضوعية، لكننا اليوم لا نتحدث عن الأمة التي تخصنا في شرقنا البائس، بل نتحدث عن إحدى أعرق الديمقراطيات في العالم وهي الديمقراطية الفرنسية فما الجديد؟
خلال الفترات الطويلة من الفراغِ السياسي الذي يعيشه لبنان، دائماً ما كان يُحكى عن مبادراتٍ فرنسية لكسرِ الجمود أو الضغط على الفرقاء للوصول إلى حلولٍ توافقية، يومها كنا نسخر من هذهِ المبادرات ونسخر من أصحاب النزعة الفينيقية في خاصرتنا الرخوة الذينَ يُطبِّلون لما يسمونها «وساطة من راعية المسيحيين في الشرق الأوسط»، تضمن إعادة انتخابِ رئيس والتوافق على حكومةٍ جديدة وحتى الضغط لانسحاب المقاومة اللبنانية إلى شمال نهر الليطاني، لأن فرنسا ببساطة لم تعد تلك الدولة الوازنة على الساحة الدولية، تحديداً بعد بداية معركة طوفان الأقصى مروراً بمرحلة ما بعدَ الانتخابات الأوروبية وحل البرلمان الفرنسي وما أفرزته الانتخابات الأخيرة من انقسام، فإن الوضع السياسي لهذا البلد لا يسمح بإطلاق مبادرات، لأنه أساساً يقف على كفِّ عفريت، أكثرية برلمانية لا تستطيع تشكيل حكومة بمفردها، الحزب صاحب العدد الأكبر من الأصوات المتاحة لم يمتلك أكثرية تجعلهُ يفرض رأيه، حكومة معطَّلة وتعذر التوافق على اسمٍ لوزيرٍ أول جديد يُرضي جميع القوى السياسية، لم يكن ينقص هذا الوضع إلا انتهاء ولاية الرئيس إيمانويل ماكرون حتى نقول إن كلا البلدين متماثلين في الأزمة السياسية، لكن حتى وضع إيمانويل ماكرون كرئيسٍ فاقد للأكثرية البرلمانية لم يكن بأحسن حال من الفراغ الرئاسي اللبناني، وإذا أرَدنا أن نفهمَ الوضع السياسي لفرنسا وللرئيس إيمانويل ماكرون فإن أكثر ما يشبههم هي تلكَ الحافلات الكبيرة شبهَ المنسَّقة التي كانت تعمل على خطوطِ الأرياف، يعلوها حِكَم أو عبارات ذات مغزى من بينها: شكراً للصعوبات فقد كشَفت لي العدو من الصديق!
كان حال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون متطابقاً مع هذهِ العبارة بعدَ أن دخلت البلاد متاهةَ توافق القوى السياسية الفائزة في الانتخابات البرلمانية على اسم وزيرٍ أول جديد، فالارتباك السياسي وصلَ بماكرون إلى الحدِّ الذي عزفَ فيهِ حتى المقربون منهُ عن تولي هذا المنصب، والسبب كان واضحاً، فلا أحد يريد حرقَ نفسهِ سياسياً والوصول إلى هذا المنصب مع هذهِ الفوضى لأن جميع الشخصيات الوازنة إن جازَ التعبير، تتطلع منذُ الآن إلى الانتخابات الرئاسية القادمة في العام 2027، حيث يجب على المرشح ألا يكونَ في منصبهِ خلالَ إعلان ترشيحه، رئيس الوزراء الأسبق إدوار فيليب، الشخصية الأكثر حظوظاً للعبور إلى الدور النهائي في الانتخابات الرئاسية القادمة، كان أول الرافضين لتولي هذا المنصب وهو أساساً كان قد استقال من منصبهِ للترشح في الانتخابات السابقة، وهناك حديث دارَ عن رفضِ رئيس الوزراء الحالي غبرييل أتال، فكرة البقاء بمنصبهِ للأسباب ذاتها، بل إنه ربما يتطلع لتحقيق إنجازٍ تاريخي يكون فيه أول رئيس شاذ جنسياً يتولى رئاسةَ فرنسا.
وجد ماكرون نفسه معزولاً، لا يريد بأي حالٍ من الأحوال منح الجبهة الشعبية ذات التوجهات اليسارية صاحبة الأغلبية البرلمانية حق القبول بمرشحتهم لوسي كاستيتيس لأنه لا يريد منح الزعيم اليساري جان لوك ميلانشون نقاط قوة، تحديداً بعدَ أن صمدَ هذا التحالف اليساري بوجه المد اليميني المتطرف في الانتخابات الأخيرة لدرجةٍ أنه كان قاب قوسين أو أدنى من تحقيق إنجازٍ تاريخي، بالسياق ذاته لم يكن التحالف مع اليمين كافياً لعبور مرشح توافقي، كان الحل الوحيد هو التحالف ولو ضمنياً مع اليمين واليمين المتطرف ليخرجَ بيان الإليزيه بالإعلان عن اختيارِ الرئيس إيمانويل ماكرون للسبعيني ميشيل بارينيير لرئاسة الحكومة كمرشح توافقي، وهو الإعلان الذي فجر تصريحاتٍ صاخبة للقوى السياسية الرافضة لهذا الاختيار وهي ردة فعل مبنية على عدةِ تناقضات أهمها، شخص ميشل بارنيير، فالوزير الأول الجديد وهو ديغولي سابق وجمهوري يميني شغلَ مناصب عدة في عهد الرؤساء السابقين كجاك شيراك، لكن المنصب الأهم الذي تولاه كان منصباً أوروبياً حيث كان كبير المفاوضين في فريق الاتحاد الأوروبي لاتفاقية خروج بريطانية من الاتحاد الأوروبي، أما حزبه الجمهوري فهو من أكبر الخاسرين في المذبحة السياسية التي نتجت عنها الانتخابات، بالسياق ذاته يرى البعض أن ماكرون أخرجَ هذه الشخصية شبه المنسية من صندوق الذكريات واستخدمه كوسيلةٍ للهروب من شبح الرافضين لتولي هذا المنصب، لكونه بهذه السن لا يبدو مرشحاً محتملاً للانتخابات الرئاسية.
بالسياق ذاته بدا هذا الاعتراض مرتبطاً بسياق التضعضع السياسي الذي تعيشه البلاد، حيث يرى المعارضون بأن هذا التعيين هو عملياً انقلابٌ على نتائجِ الانتخابات التي منحت الجبهة الشعبية الأغلبية البرلمانية، وانقلاب على الإرادة الشعبية التي أقصت اليمين المتطرف من الباب وهناك من يريد إعادتهِ من الشباك والمقاربة هنا بسيطة: إذا كان الحزب الجمهوري اليميني قد أعلن خلال حملته الانتخابية عن طرد القيادي في الحزب إيريك سيوتي فقط لأنه دعا علناً إلى التحالف مع اليمين المتطرف خلال الدور الثاني من الانتخابات البرلمانية، للوقوف بوجه الجبهة الشعبية اليسارية، فإن دوام الحال يبدو من المحال، فرئيس الوزراء المكلف لاقى تعيينه قبولاً كبيراً عند اليمين المتطرف، حيث أكد رئيسه جوردان بارديلا أن حزب التجمع الوطني سوف يقيّم خطاب بارنييه بشأن السياسة العامة وقراراته المتعلقة بالميزانية من خلال الممارسة فقط، أما بعض نواب اليسار فاتهموا بارنييه بأنه كان الخيار الذي طرحتهُ مارين لوبين شخصياً، وهو يبدو كلاماً خطيراً نقل المعارضة من البرلمان إلى الشارع.
أما ميشيل بارنييه فحاول الدفاع عن نفسه بطريقةٍ ديبلوماسية، ففي أول مقابلةٍ تلفزيونيةٍ له نفى اتهامات اليسار له مؤكداً أن ما من علاقة تربطه باليمين المتطرف وهو أمر لن يطول الزمن حتى ينكشفَ صدقهُ من كذبه عندما سيُفتح باب التصويت في البرلمان لنيل الثقة وموقف اليمين المتطرف من منح هذه الثقة من عدمها! مع الأخذ بعين الاعتبار بأن الكثير من النقاط يبدو أن بارنييه يتشاركها مع اليمين المتطرف من خلال طروحاته بعد تعيينه، أهمها ملف الهجرة وملف القوة الشرائية للمواطن للفرنسي، ولم يكتف بارنييه بنفي الاتهامات بل وطمأن جميع القوى السياسية بأنهُ منفتح على مشاركة الجميع وعدم إقصاء أي تكتلٍ جاءت به الإرادة الشعبية إلى البرلمان، لكنه يعرف حكماً قبل غيره بأن هذه العبارات لا يمكن لها اللعب بعقول اليسار الذين كانوا ولايزالون يحلمون بالسلطة، وهم فعلياً أقرب من أي وقت مضى للسيطرة عليها فماذا ينتظرنا؟
لم تكن الدعوات التي أطلقها زعماء الجبهة اليسارية للنزول إلى الشارع عبثية، بل هي دعوات تثبت أن باب الحوار أُغلق، وإلا كان على قادة المعارضة مثلاً انتظار ما ستؤول إليه مفاوضات التأليف، لكن في الإطار العام لا تستطيع المعارضة البقاء في الشارع لعشرةِ أشهر قادمة وهو الموعد الذي يمكن معه لرئيس الجمهورية الإعلان عن انتخابات مبكرة جديدة وحل البرلمان، أي بعدَ مرورِ عام من صدور النتائج الأخيرة، بالسياق ذاته تبدو الحكومة القادمة من دون الجبهة الشعبية أو على الأقل أحد الأحزاب اليسارية المكونة لها حكومة مشلولة، لذلك ربما هذا ما سيلجأ إليه الرئيس ماكرون في الأيام القادمة، محاولة استمالة بعض الأحزاب اليسارية الصغيرة بدوافع منع دخول البلاد بمزيد من الفوضى، فهل سيتغلب وضع العقل على المشاعر؟
بصراحة أياً كانت النتيجة ليس هذا المهم بل المهم بأن درساً بالواقعية السياسية يحدث أمامنا، من كان يُصدّق يوماً بأن مارين لوبين ستُرشح من تثق به وإيمانويل ماكرون سيلاقيها في منتصف الطريق؟! ألهذا الحد يخافون من الجبهة الشعبية الجديدة؟ طبعاً لأنها التكتل السياسي الوحيد الذي كشف دونية السياسة الأوروبية داخلياً وخارجياً!
كاتب سوري مقيم في فرنسا