الكرد.. أي حذر وأي غفلة؟
عبد المنعم علي عيسى
قرأت قيادات جبال قنديل في شمال العراق السيناريو الذي مرت به تجربة شمال العراق بدءاً من عام 1991 وصولاً إلى عام 2003 الذي شهد سقوط بغداد على يد الاحتلال الأميركي، والذي أفضى كنتيجة إلى رسم محددات أكثر وضوحاً للكيان الذي استولده التاريخ الأول، على أنه نموذج قابل للتكرار على الضفة السورية، وربما اعتقدوا أنهم نجحوا في التقاط اللحظة بعد صدور قرار مجلس الأمن ذي الرقم 2170 في 15 آب 2014 الذي تكشّف من خلاله أن واشنطن بات همها الأكبر هو محاربة تنظيم داعش، حيث سيدفع البناء على هذا التكشف الأخير نحو رهان الركوب في «أسانسير» ذلك القرار للوصول إلى استنساخ محتمل لنموذج الشمال العراقي.
كان ذلك الرهان خطأ استراتيجياً فادحاً ستكون له تداعياته المدمرة على المديين القريب والبعيد، وهي في مجملها سترتد بالدرجة الأولى على المراهنين الذين تراصفوا في لعبة ورق قبلوا فيها أن يكون «الأص» أميركياً، ومن يليه في التراتببية قوى إقليمية وجدت في تلك اللعبة محاولة تستحق الاهتمام لجهة عبثها بالتاريخ والجغرافيا، حيث للفعل إذا ما نجح يحدث اختلالاً في التوازنات الإقليمية القائمة بما يسجل نقاط ربح في جعابها المثقوبة.
خطأ الرهان سابق الذكر يتأتى من عاملين اثنين: أولهما أن القبول التركي بالوضع القائم في شمال العراق ما بعد محطتي 1991 و2003 جاء على خلفية الإغراءات المقدمة لأنقرة بمنافع اقتصادية، مع تقديم ضمانات بأن تظل العين التركية قادرة دائماً على مراقبة عمليات توريد السلاح إلى مناطق الكيان المزعوم، إلا أن العامل الأهم في ذلك القبول يعود إلى أن القوى السياسية التي كانت، ولا تزال، مسيطرة في الشمال، والمتمثلة بـ«البارازانية» و«الطالبانية»، هي من حيث المنهج والتكوين تجد نفسها مهيأة بدرجة صارخة لتنفيذ إملاءات الخارج وفقاً للمصالح التي تحدد سياسات هذا الأخير، في حين أن «ميليشيات قسد» التي تتبنى نهج حزب العمال الكردستاني ذا النزعة الانفصالية، من الصعب أن تحظى بقبول تركي يبدو لا غنى عنه لامتلاك المشروع أسباب النجاح. وثانيهما أن الرهان على حبل مشيمة رابط مع الغرب تماماً كما هو حاصل مع الكيان الإسرائيلي، هو الآخر رهان خاطئ لاعتبارات عديدة علّ أبرزها أن الغرب يبدو مدركاً أن الحمولات التي تنوء تحتها هذي المنطقة راهناً هي أعجز من أن تحتمل «إسرائيلَين» تحت أي ظرف كان.
الحذر الذي مارسته الفصائل الكردية في شرق الفرات ما بعد التقاط اللحظة، في أعقاب محطة القرار 2170 سابق الذكر، بدا غائباً ما بعد محطة آذار 2019 التي شهدت الإعلان عن الانتصار النهائي على داعش في الباغوز، فمن المؤكد أن هذي المحطة الأخيرة تعد ملغاة تماماً لمخرجات المحطة الأولى، أو بمعنى آخر هي تفقدها مشروعية البقاء، وما يجب ألا يغيب عن ذهنية جميل باييك القابع في جبال قنديل الآن، هو أن النظرة الأميركية لـ«قسد» قد تبدلت بعد هذا التاريخ الأخير، ومن الممكن لحظ ملمح لتوجه أميركي في التعاطي مع «قسد» يوحي بانتفاء الدور الوظيفي لهذي الأخيرة، وما تبقى من ذلك التوجه هو استخدام هذي الأخيرة ورقة مساومة عندما يحين أوان استخدامها على الطاولة، وهذا كله يبين بوضوح في محاولات واشنطن عزل قيادة جبال قنديل في الشمال العراقي عن تأثيرها في قرارات «قسد»، بدليل انتقاد جميل باييك لمظلوم عبدي متهماً إياه بالتفرد في اتخاذ قرار التوقيع على اتفاق نفطي مع شركة «دلتا كريسنت اينيرجي» الأميركية في أواخر تموز المنصرم.
لا يمكن النظر إلى حادثة اغتيال شيخ العقيدات مطشر الهفل، الذي اتهمت «قسد» بتنفيذه، على أنه النقطة الأهم التي قادت إلى الحراك الذي شهده ريف دير الزور الشرقي منذ 4 آب الجاري فصاعداً، والصحيح هو أن تلك النقطة كانت هي التي أدت ظاهرياً فقط إلى سيلان الكأس المترعة باحتقانات سابقة احتواها قعرها وصولاً إلى عنقها، وهي في مجملها كلها كانت مسؤولة عن فعل الانسكاب الأخير.
الآن مجمل التطورات الأخيرة الحاصلة تهدد بقيام صراع كردي كردي في ظل غياب أكيد لأي دعم يمكن أن تتلقاه «قسد» من جبال قنديل، في حين يشكل دخول العشائر العربية التي عقدت اجتماعها الثالث في حلب 20 آب الجاري، على الخط نسفاً أكيداً للتوازنات القائمة في شرق الفرات منذ عام 2014، التي استطاعت «قسد» من خلالها فرض نفسها قوة أمر واقع بدعم أميركي مطلق، وهذي المقدمات ستفضي إلى نتائج مؤكدة في الذروة منها انتفاء الدور الوظيفي لـ«قسد»، أما مصير كيانها فهو مرتهن بتفاهمات ذات طابقين أولهما إقليمي والآخر دولي.
من سقوط مهاباد 1947 في إيران، ثم السقوط في كركوك 2018، إلى السقوط القريب في شرق الفرات، أي حذر وأي غفلة في سير هذا التاريخ الكردي الذي يصح وسمه بـ«التيه»؟