منوعات

بنك الشحادين والمتسولين .. لم يكن هنالك أساس حقيقي لإفلاس بنك مرقدة الذي كان من أنشط مصارف دمشق

لدمشق قصص وحكايا منها السياسي والاجتماعي والثقافي… ومنها قصص طريفة ظريفة، تضحك أو تبكي، ومن الحكايا الطريفة، حكاية بنك قديم أطلقوا عليه اسم بنك الشحادين والمتسولين!؟ وللبنوك سرها كما لباقي المهن من أسرار، ولكن يبدو سر البنوك منذ إنشائها كان لها خفايا وخبايا!؟

بنك مرقدة
في البدء نقول: إن بنك مرقدة ليس له علاقة من قريب أو بعيد بالخبز المرقد.
منذ الصغر كنا نسمع باسم بنك مرقدة. فعندما يريدون ضرب المثل بشخص ما أو تاجر ما كان صاحب مال وجاه ومن ثم أصبح بين ليلة وضحاها مفلساً لا يملك أي قرش.. فيقال مثل بنك مرقدة للدلالة على إفلاس هذا البنك بشكل مفاجئ وغير متوقع.
المعلومات عن هذا البنك مع الأسف قليلة جداً، حتى إن أهالي دمشق وبعض المهتمين يخلطون بينه وبين بنك زلخا (بنك زلخة أصحابه من يهود العراق) وبنك زلخا هو نفسه البنك الإمبراطوري العثماني، ذو الجنسية الإنكليزية، الذي كان قائماً في سوق العصرونية والذي يعود تاريخ تشييده إلى عام 1895م، ولم يزل هذا البناء قائماً حتى الآن، على الرغم من تعرضه لبعض التصدعات من جراء الحريق الذي تعرضت له منطقة العصرونية خلال ربيع هذا العام، وهنالك عدد من المهتمين يؤكدون أن بنك مرقدة هو نفسه البنك العثماني أو بنك زلخا، وفي هذا الصدد يقول د. جوزيف زيتون في حديثه عن سوق العصرونية: (وفي أحد تفرعات السوق محلات تخصصت في بيع ألعاب الأطفال بكل أنواعها وأشكالها، وقد وصل عدد محلاتها إلى نحو 400 والسوق غير مسقوفة وكانت السوق تضم بنكاً عثمانياً لشخص يُدعَى (محل مرقدة) وهو بنك مرقدة إخوان وأسرة مرقدة من العائلات المسيحية الأرثوذكسية الشهيرة واستمر إلى ثلاثينيات القرن العشرين، حيث تعرض للإفلاس).
كان البنك العثماني أو بنك زلخا كما سمي فيما بعد، يقع في سوق العصرونية ثم اشترته مؤسسه مالية يهودية كبرى اسمها «خضوري، عبودي، زلخا» ومركزها الرئيسي في بغداد، وهي من أهم الشركات المالية في العالم، وفتحت بنكاً في هذا المبنى اشتهر باسم «بنك زلخا» ولم يكن هو نفسه بنك مرقدة ولم يكن أيضاً بنك «زلخا مرقدة» كما يشير البعض، وعمل بنك زلخا في الشأن المالي الدمشقي فترات طويلة قبل هجرة العائلة من دمشق نحو عام 1954م، وبنك زلخا بقي سنوات عديدة يدير التحويلات الحكومية في كل من العراق ودمشق ولبنان ومصر.. وبمعنى آخر كان مسيطراً على أسواق المال في العديد من الدول العربية والأجنبية. وشهدت أواسط القرن العشرين إغلاق كل فروع بنك زلخا أو تأميمها ومصادرة موجوداتها في العراق سنة 1952، وسورية سنة 1954، ومصر سنة 1956، ولبنان سنة 1957.
ولم يزل بناء بنك زلخا قائماً حتى الآن في سوق العصرونية ويعرف بالبنك العثماني.
وحسب الذاكرة الشعبية لبعض كبار السن وكما جاء في مذكرات بعض الذين كتبوا مذكراتهم من أهل دمشق فإن بنك مرقدة (بنك الشحادين والمتسولين) كان في سوق البزورية وهذا البنك ليس له علاقة باليهود، وهو موجود حتى الآن، ويقع مقابل حمام نور الدين الشهيد، ومكانه في الوقت الحاضر بائع موالح وسكاكر لشخص من آل الحفار.
أنشئ هذا البنك عام 1930 واشتهر بأنه بنك المتسولين والشحادين والفقراء، لأنهم كانوا يضعون فيه أموالهم بالفائدة لقربه من الجامع الأموي المكان المناسب لهم لممارسة مهنة التسول!! وكان للبنك باب حديدي من الخارج ويليه باب من الخشب، ثم فسحة كبيرة وعدد من الغرف.. وعندما أفلس هذا البنك اجتمع أمام بابه متسولو دمشق وأخذوا يندبون ويبكون على ضياع أموالهم، وهذا ما دعا أبو مصطفى نصري وهو والد الفنان الراحل مصطفى نصري لنظم زجلية طويلة في حال هذا البنك وهؤلاء المتسولين.

بنك مرقدة
بنك مرقدة صاحبه ميشيل مرقدة «أبو موسى» وهو من الشخصيات الدمشقية المعروفة آنذاك وكان عضواً في مجلس إدارة غرفة تجارة دمشق منذ عام 1922م ولثلاث دورات واشتهر بالعمل المصرفي، ويقول بدر الدين الشلاح: «إن بنك مرقدة إخوان كان في سوق البزورية أمام خان السبيعي قد احتل مكانة جيدة في عمليات الإيداع والإقراض ولم يكن إفلاسه مفتعلاً أو نتيجة سوء نية بل بسبب الكساد المالي».
ويتابع الشلاح بالقول: (لم يكن هنالك أساس حقيقي لإفلاس بنك مرقدة الذي كان من أنشط المصارف في دمشق، ومقره سوق البزورية، إلا أن أحد أفراد عائلة مرقدة كان صرافاً في سوق البورص «سوق البورصة» فأفلس، وشاع في دمشق أن بنك مرقدة إخوان نفسه تعرض للإفلاس، فهرع الناس لسحب ودائعهم، واشتد الضغط على البنك، وصادف ذلك خلال الأزمة العالمية بين أعوام 1929– 1933م حيث هز الكساد العالمي أميركا نفسها وكان فيها الكثيرون الذين تعرضوا للإفلاس… مرقدة لم يفلس ولديه عقارات مرهونة تساوي الديون غير أن الوقت غير كاف لتدارك المبالغ المطلوبة).
وقيل حينها: إن أبناء عم صاحب البنك ميشيل مرقدة طرحوا الشائعة افتراء، وألحقوا أضراراً بالغة بالعمل المصرفي في سورية، وإن «هجوم» المودعين على سحب أرصدتهم أدى إلى عجز كبير في السيولة ولم يكن ثمة وقت كاف لتدارك الأموال من المدينين.

إفلاس البنك يكشف متسولي وشحادي دمشق
تروي الذاكرة الشعبية لأهل دمشق، أنه بمجرد انتشار شائعة إفلاس البنك، تدافع عشرات العشرات من متسولي وشحادي دمشق، إلى سوق البزورية حيث يقع بنك مرقدة لسحب أرصدتهم، فكشفت هذه الحكاية كثيراً من المتسولين الذين كانوا يتظاهرون بالفقر والعوز ويمدون اليد للناس وتبين أن كثيراً منهم كانت له ودائع لدى البنك، وترددت في دمشق عدة حكايا وأغانٍ شعبية ونكات حول إفلاس البنك، فكان تجار دمشق يقولون، «بنك مرقدة فلس والبيع نقدي»، ويروى في ذاك الزمن على سبيل النكتة، أن العامة من الناس أو الأطفال حين كانوا يمرون من أمام شحاد أو متسول، كانوا يقولون له (لك أفلس بنك مرقدة وين بدك تحط مصاريك.. فيلحقهم بالسباب والشتائم).
ولا ينكر أحد أن هذا البنك كان له دور مفيد في العمل التجاري وقدم خدمات جلى للتجار وكان موضع ثقتهم، لكن الذاكرة اختزنت صفة ألصقت بهذا البنك أنه بنك الشحادين والمتسولين.
أفلس بنك مرقدة في ذاك الزمن، وبعدها طال التأميم البنوك في سورية ولم يعد هنالك سوق البورص أو البورصة، واقتصرت التداولات والإيداعات على البنوك الحكومية، ولم نعد نسمع كلمة إفلاس، وقد عادت المصارف الخاصة وسوق الأسهم والأوراق المالية إلى الحياة المصرفية مع مطلع القرن الحادي والعشرين ليشهد القطاع الاقتصادي في سورية نهضة اقتصادية لم يحد من ازدهارها إلا هذه الحرب الظالمة التي يتعرض لها بلدنا حالياً، وبالرغم من الظروف القاسية مازالت البنوك الخاصة والحكومية تعمل لخدمة الوطن والمواطن.
وما زالت دمشق تروي قصصاً وحكايا، خفايا وخبايا.

شمس الدين العجلاني

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock