بين الذكاء الصناعي والغباء الطبيعي.. قمة الدول السبع تكذب أكثر!
فراس عزيز ديب
منذ عقودٍ طويلة وتحديداً مع الثورة الرقمية في هذا العالم، خرج الكثير من الدراسات التي تتحدث عن الصراع بين الحضارة والقيم، بمعنى آخر: إن التكنولوجيا أو الرفاهية الصناعية لا يمكنها أن تحمي البشرية إن غابت القيم.
هذا الصراع يبدو في ظاهرهِ صراع الأغنياء مع الفقراء لكن باطنه يبدو اختصاراً لأغلب مشاكل هذا العالم تحديداً عندما يستخدم من يختزلون القرارات شعاراتٍ مستهلكة على حساب الأبرياء، هذا النموذج من النفاق يتجسد بما يسمونها «قمة الدول السبع»، أي الدول أصحاب الاقتصادات الأقوى في هذا العالم.
يحلو للبعض تحديداً في الغرب المتحضر، وصف هذه القمة بـ«قمة اللصوص»، إما لسردِ ما يقوم بهِ قادة هذه الدول من جرائم باسم الإنسانية أو لترسيخ فكرةِ الفرز الطبقي المقيت، أي اجتماع الأغنياء لمناقشةِ مشاكل الفقراء وهناك مختل سيصدق بأن الحلول المطروحة ستكون مبنية على البعد الأخلاقي الذي تنادي بهِ هذه الدول ولن يكون مبنياً على مزيدٍ من الحروب والدمار!
في قممٍ كهذهِ لسنا بحاجةٍ لانتظار البيانات الختامية، لأنها أشبه ببيانات القمم العربية التي تبدو كنسخٍ مكررة، بمعنى آخر، ما من شيء استثنائي ميز هذه القمة في كل دوراتها السابقة، لكنها في هذا العام وكما كثير من الأحداث السياسية، أبَت أن تكون كذلك، وهو ما عبرت عنه «نيويورك تايمز» عندما اعتبرت أن من تجمعهم الصورة التذكارية كرؤساء أو مسؤولين حاضرين لهذهِ القمة هم بالمجمل مجردَ قادةٍ ضعفاء أنهكتهم مشاكلهم الداخلية!
يبدو هذا التوصيف واقعياً، لأنها كانت قمة أقرب مثلاً للاحتفال بعيد ميلاد المستشار الألماني أولاف سولتش الذي لم يعرف حتى الآن كيف يلملم جراح الهزيمة الانتخابية التي ألحقها به الحزب الديمقراطي المسيحي وحزب البديل اليميني المتطرف في الانتخابات الأوروبية الأخيرة، من كونها قمة لمناقشة الملفات الدولية العالقة وما أكثرها هذهِ الأيام، لكن ما ينقص هذا التوصيف أنه اختزلَ مشاكل هؤلاء القادة بالمشاكل الداخلية، والواقع يقول إن إخفاق هؤلاء بإيجاد حلول وفق الشعارات التي يطرحونها للاستحقاقات الخارجية كان له كذلك دور جوهري في إضعافهم داخلياً وخارجياً فكيف ذلك؟
عندَ التدقيق في جدول الأعمال المعلن للقضايا التي ناقشتها هذهِ القمة سنجد أن موضوعها الأول كان «قضايا الفقر والجوع في إفريقيا»، وعند الحديث عن إفريقيا فأول من يأتي إلى الذهن من بين الذين حضروا هذهِ القمة هي فرنسا التي تضربها اليوم أكبر أزمة سياسية عرفتها البلاد منذ تأسيس الجمهورية الخامسة في العام 1958بعد فوز اليمين المتطرف بالانتخابات الأوروبية وإعلان الرئيس إيمانويل ماكرون الدعوة إلى انتخابات مبكرة نهاية الأسبوع المقبل!
لكن فيما يتعلق بفرنسا وأزمتها الإفريقية إن جازَ التعبير، فالقضية هنا ليسَت بملامح الوجوه أو بالمشاكل الداخلية لفرنسا التي تم طردها تقريباً من كامل إفريقيا وهي التي كانت حتى الأمس القريب الوريث الوحيد للنهج الاستعماري في القارة السمراء، المشكلة أن دولة بهذه المواصفات تريد مناقشة الفقر في إفريقيا؟ هل من أحد سيصدقكم بعد اليوم؟ كانَ الأولى بالقيادة الفرنسية مناقشة أسباب خسارة الإرث الإفريقي، هل كانت بسبب ردات فعل ارتجالية من قادة الدول الإفريقية التي انتفضت بوجهِ النفوذ الفرنسي، أم بسبب إخفاق تراكمي في قيادة هذا النفوذ بصورة إنسانية تدعو للمساواة ولا تدعو للاستعمار والفوقية؟
ربما لسنا بحاجة للكثير من الأبحاث لنرجح الاحتمال الثاني والذي بدأ يتجسد منذ التدخل الفرنسي غير الشرعي لإسقاط النظام الليبي مع بداية ربيع الدم العربي، خسارة هذا الإرث كانت بلا شك خسارة مضاعفة لأن التراجع وانحسار النفوذ جاء لحساب العدو اللدود وهو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين و«الصديق اللدود» المتمثل بالصين.
بذات السياق رأينا في جدول أعمال القمة مناقشة «مخاطر الذكاء الصناعي على البشرية»، اللافت في هذا البند بأن القمة استعانت بالخبرات التكنولوجية التي يتقنها بابا الفاتيكان وطلبت منه أن يكون ضيف شرفٍ للتحدث عن المخاطر المحدقة بالبشرية بعد ثورة الذكاء الصناعي لكون الكنيسة تحمل رسالة إنسانية قبل كل شيء، هدفها الارتقاء بالإنسان!
اللافت هنا بأن قادة هذهِ الدول من دون استثناء هم أنفسهم من ضرب عرضَ الحائط برأي الكنيسة في الكثير من القضايا الخلافية التي حولت الإنسان إلى سلعة رخيصة في مختبرات العلم وتشريعات الليبرالية المفرطة عندما أقروا قوانين مثيرة للجدل كزواج المثليين أو الإجهاض دون تحديدٍ لعمر الجنين والتحول الجنسي الإرادي من دون مسوِّغ مرَضي، هم لم يتجاهلوا فقط رأي الكنيسة وقزموا دورها لكنهم بذات السياق تجاهلوا حتى رأي الأغلبية من شعوبهم عندما تم تمرير قوانين كهذه عبرَ البرلمان لا عبر التصويت المباشر من الشعب، كما حدث مع الفرنسيين بإقرار قانون زواج المثليين.
كلمة البابا في القمة كانت كما العادة عمومية فيها الكثير من المجاملات التي لا تضع النقاط على الحروف، مثلاً فإن البابا حذر من استخدام الذكاء الصناعي في التصنيع العسكري، وهو تحذير لاقى الكثير من السخرية على مواقع التواصل الاجتماعي، لدرجة دفعت البعض للقول إن استخدام الذكاء الصناعي يبدو مفيداً لعله يخفف من عدد الضحايا! كان على البابا ربما سؤال الرئيس الأميركي جو بايدن عن الأسلحة «غير الذكية» التي استخدمها الأميركيون في الفلوجة، والصهاينة في غزة وما تسببت وتتسبب به من جرائم حتى يومنا هذا، ترى ماذا لو كانت ذكية؟
تبدو آخر المواضيع الأخلاقية الملحة والتي ناقشتها القمة هي وقف الصراعات والحروب! وهذا البند يشبه ادعاء المرابي بأنه لا يريد أن يرى من يحتاج أمواله لأن مآسي الآخرين تسبب له الكآبة، هكذا هي دول هذهِ القمة بادعاءِ سعيها لإنهاءِ الصراعات والحروب لأنها كما المرابي الذي ينتعش من احتياجات الآخرين!
نبدأ من الدول الأوروبية الحاضرة للقمة والتي كانت أول من استسلمَ للإرادة الأميركية في تغذية الصراع بين روسيا وأوكرانيا وصولاً إلى الصدام المباشر الذي تدفع ثمنه اليوم أوروبا بالكامل، هذه الحرب التي باتت تستهلك من أموال المكلفين بالضرائب الأوروبيين حد الاستفزاز، والتي جعلت التعاطي معها أحد أسباب نزوح الأصوات الانتخابية نحو اليمين المتطرف، ولكي تتضح الفكرة بهذا السياق فإن المثال الفرنسي حاضر أمامنا من دون رتوش، فمشروع إصلاح قانون البطالة الذي اقترحه رئيس الوزراء غبرييل أتال والذي يلقى اعتراضات كبيرة من المعارضة الفرنسية على اختلاف مشاربها وهو من أحد أهم أسباب ارتماء الناخب الفرنسي بأحضان اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية الأخيرة، يستهدف توفير ما يقارب خمسين مليون يورو سنوياً لمنع إرهاق الخزينة حسب الحكومة الفرنسية، فيما ذات الحكومة أقرَّت في شهر شباط الماضي مساعدات لأوكرانيا بقيمة ثلاثة مليارات يورو فقط في هذا العام! فأين إرهاق الخزينة؟ ومن الذي دفع الأوروبيين إلى هذه المذبحة من دون تفكير؟
على الضفة الثانية من البحر الأبيض المتوسط تتجسد- كذلك الأمر- المسافة الشاسعة بين الشعارات والوقائع تحديداً فيما يتعلق بوقف الصراعات والحروب، الذي ادعت قمة الدول السبع مناقشته، لأن ما يجري من عدوانٍ مفتوح على قطاع غزة منذ أكثر من نصفِ عام يثبت هذا الدجل، فالرئيس الأميركي جو بايدن الذي فيما يبدو وكأنه يحضر «قمته الوداعية» لم يترك فرصة للمراوغة والابتعاد عن الضغط على الكيان الصهيوني لوقف العدوان إلا واستخدمها، لنصل إلى المرحلة التي تحدثَ فيها قادة الدول السبع عن الدعوة لحماية المدنيين بعد وصول عدد الشهداء والمفقودين لحوالي خمسين ألفاً، لكن لعبة المراوغة واللعب على الألفاظ لم تتوقف عندما ادعى بيان القمة بأنهم يعارضون هجوماً واسع النطاق على رفح!
هم لا يريدون انتقاد الكيان علناً لدخوله رفح متحدياً كل الدعوات التي طالبته بالتوقف، ولا حتى سيطرته على المعابر لخنق المدنيين جوعاً وعطشاً، فوجد ضالته بتعبير «هجوم واسع النطاق» لترك الأمور مفتوحة على مصراعيها التي تعطي الكيان الضوء الأخضر للمزيد من الجرائم والانتهاكات! من يريد فعلياً إيجاد حلولٍ للصراعات والنزاعات عليه أولاً وأخيراً أن يضغط لتطبيق قرارات الشرعية الدولية وليس التلاعب بالألفاظ واختراع مصطلحات لتبرئة من يدوسون الشرعية الدولية بأقدامهم، وما ينطبق على غزة ذاته ينطبق على ما يجري في جنوب لبنان حيث تتحرك قوات الاحتلال بحرية مطلقة وتنفذ ما تشاء من عمليات اغتيال وقتل بحق المدنيين والأبرياء بحجة الهجوم على قادة في حزب الله، هذا الصمت الذي سيؤدي حكماً إلى تدحرج الأوضاع إلى مالا تحمد عقباه، تحديداً بعد توارد الكثير من المعلومات عن نية الكيان شنَّ هجومٍ في الجنوب اللبناني!
في الخلاصة: يقال إنك إن كنت كاذباً فعليك التمتع بذاكرة قوية، مشكلة هؤلاء القادة ليست فقط بتمتعهم بذاكرة ضعيفة لكن المشكلة باعتقادهم بأنهم مازالوا قادرين على الكذب بهذه الطريقة المفضوحة وظهورهم بمظهر التحضر وأكفهم مغمسة بدماء الأبرياء، والمشكلة الأهم بأن هناك مرضى بالغباء الطبيعي لا الصناعي مازالوا يصدقونهم، لأن قمة كهذه هي التجسيد الحقيقي لمقولة: لمن تشتكي حبة القمح إن كان القاضي دجاجة!
كاتب سوري مقيم في فرنسا