بين كذب نتنياهو والواقع على الأرض.. فزَّاعة «الشرق الأوسط الجديد».. كيف يمكن تحقيقه؟
| فراس عزيز ديب
عند ولادةِ مصطلح «الشرق الأوسط» في السياسة الدولية قبلَ عقودٍ من الزمن، هناك من ربطَ بينهُ وبين السعي الغربي لمحي الوطن العربي ككتلةٍ جغرافية وبشرية متكاملة من المحيط إلى الخليج وقضيته المركزية المتمثلة بالصراع العربي- الإسرائيلي والاستعاضة عنه بمصطلحات مستحدثة، لكن في الحقيقة بدَت هذه الفكرة يومها قاصرة عن ملامسةِ المتغيرات الجيوسياسية وبقيت أسيرة لفكرة «المؤامرة على الأمة»، لأن استبدال الوطن العربي بمصطلح الشرق الأوسط كان نتيجة لدخول دول غير عربية في هذا الصراع كإيران بعد الثورة، كذلك الأمر لأن هذهِ المنطقة العربية بالأساس بقيت تحت نيرِ أقذر احتلال عرفهُ التاريخ وهو الاحتلال العثماني، على هذا الأساس شكَّل هذا المصطلح نوعاً من الخوف في أدبياتنا السياسية، ليتحول إلى فزاعة تستهدف أمتنا، فكيف إذا كان هذا المصطلح مرتبطاً اليوم بالتجديد تحت مسمى «شرق أوسط جديد»؟!
ما لاشكَّ فيه أن هذا المصطلح أخذَ شهرتهُ عندما أطلقت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس بُشراها عند اندلاع حرب تموز في العام 2006، يومها سقطَ الحلم الأميركي عند أقدام المقاومين وبتنا نتحدث عن الحرب وإنجازاتها على أنها أسقطت المشروع الأميركي للشرق الأوسط الجديد برؤية هذا الشرق من دون مقاومة، وربما هي مغالطة أظهرت الأيام عدم صحتها، لأن ما أسقطناهُ يومها كانَ جولة من جولات السعي لفرضِ شرق أوسط جديد!
أعادت الولايات المتحدة المحاولة من خلالِ كذبة الربيع العربي، يومها وضعوا الحروب المباشرة جنباً وشرعوا بالحروب غير المباشرة التي وقودها الشعوب والمذهبية، نجحوا في ذلك إلى حدٍّ بعيد تحديداً أن استعار نار المذهبية يومها كان علناً عبر إطلاق العِنان للسلفيين والجهاديين لتكونَ لهم منابرَ وقنواتٍ تلفزيونية يكفرون فيها من يشاؤون، فقالوا يومها: إن الشرق الأوسط الجديد هو شرق متأسلم تحكمهُ أنظمة مذهبية لا تبدو إسرائيل الدينية معه كدولة منبوذة، فلا تقوم لهذهِ الأمة قائمة لعقودٍ تحديداً بوجود دولٍ عدة وقتها مبنية على أُسسٍ دينية، هذا المشروع نجح في تدميرِ هذهِ الأوطان حكماً مهما حاولنا القفز عن هذه الحقيقة، وربما لولا القرار الأميركي بالتخلص من «حكم المتدينين» لما أُعتقت رقبة مصر وتونس على سبيل المثال، مع أن ثمن هذا الانعتاق كان كبيراً جداً بما فيها الصمت المصري اليوم حيالَ المذبحة المفتوحة في لبنان وفلسطين، لكن أين هو شرقهم الأوسط الجديد؟
دعونا نتفق بأن هذا المصطلح باتَ مطاطاً إلى الحد الذي يشبه فيه مصطلحات سبقتهُ، عاشت معنا عقوداً من الزمن ولا نعرف لماذا نحن ضدها، كالرأسمالية مثلاً التي لا يجب تقديمها كبعبعٍ يلتهم خيرات الشعوب طالما أنها تحقق لهم الرفاهية، والماسونية التي تربينا على أنها تخطِّط وتدير كل شيء في هذا العالم وتتآمر علينا منذ عقودٍ من الزمن والمفارقة بأنها تنجح دائماً، لكن ما هي الماسونية؟ وصولاً إلى الشرق الأوسط الجديد، فلو سألنا اليوم عن محددات أو تعريفات هذا المصطلح بمعزلٍ عن اللغة الأكاديمية التي لا أزال أراها أحد أسباب نكبتنا الفكرية، لما كان هناك جواب ثابت عليه، كلٌّ يقدم الجواب الذي يناسب تطلعاته، فمن الطبيعي أن يأتي مثلاً كاتب خليجي ليصف هذا المشروع بأنهُ يسعى لتدمير المنطقة العربية بهويتها وتقاليدها، بهذا المفهوم فإن المشروع نجح؟!
أو أن يأتي كاتب ينتمي لدول تحكمها الشعارات الرنانة فيتحدث عن مشروعِ الشرق الأوسط الجديد من منطلق السعي لقلب الأنظمة الحاكمة والمجيء بأنظمة موالية للإمبريالية، حقاً؟ هذا التفسير تحديداً يذكرني ببعض الكتابات التي كانت تبرر لبعض الدول «الصديقة» الاستماتة بدفاعها عن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من منطلق أن البديل سيكون موالياً للولايات المتحدة!
ختاماً فإن من لا يزال يحمل هم القضية الفلسطينية وتبعات الصراع العربي- الإسرائيلي كان ولا يزال يرى في هذا المصطلح أداة تريد الولايات المتحدة من خلالها تصفيةَ الصراع العربي- الإسرائيلي وموت القضية الفلسطينية، بمعنى أن الشرق الأوسط الجديد هو شرق تكون فيهِ إسرائيل جزءاً من هذهِ المنطقة، ربما هذا الكلام يبدو الأقرب للمنطق، لكن وللأسف لا يمكننا اعتبار هذا المصطلح «رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه»، لأن فكرةَ دمج إسرائيل في المنطقة ليست وليدة لهذا المصطلح، بل يمكننا القول: إنها بدأت مع تحول إسرائيل إلى دولة باعتراف جميع المنظمات الدولية التي تنتمي إليها دولنا، وبالسياق ذاته استمرت مع إقرار الدول العربية دخول عملية السلام على مبدأ «الأرض مقابل السلام»، حتى الدول غير العربية التي لا تزال تبيع الشعارات بهذا السياق هي نفسها وقَّعت سياسياً مع الأميركي عندما وجدت مصلحتها هناك، إذاً لا يستطيع أحد أن يُفاخر على أحد، الجميع يشترك بالهجوم على مصطلح ما زلنا نجهل تفاصيلهُ، لكن ماذا عن العدو؟
كان لافتاً خلالَ الأسابيع السابقة بأن عدداً كبيراً من المسؤولين الإسرائيليين وعلى رأسهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أعادوا استخدام هذا المصطلح، لكن هذا الاستخدام بدا أشبهَ بالشماعة وبصورةٍ أدق فإن استخدامه تلا أحداثاً إجرامية غيرَ قابلةٍ للتأويل، من مقتلِ رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في قلب طهران مروراً باستهداف الأمين العام لحزب اللـه الشهيد حسن نصر الله، وصولاً إلى الحرب المفتوحة على لبنان!
بدا استخدام نتنياهو وطغمته لهذا المصطلح أشبه بتسويق المجهول على أنه هدف، حتى لو سألنا كُبرى مراكز الدراسات الإسرائيلية اليوم ماذا يعني نتنياهو بهذا المصطلح، فأجزم بأنه لا جواب لديها، مع الأخذ بعين الاعتبار هنا بأن مراكز الدراسات هذهِ مهمتها البحثية نشرَ دراسات ولو بمسمى «وهمية» لتبرير الإجرام الصهيوني ومع ذلك لم يوضحوا لنا ماذا يقصدون بالشرق الأوسط الذي يريد نتنياهو العمل لتحقيقه، لكن وفق المعطيات على الأرض دعونا نتفق بأن ما يقصده نتنياهو مرتبط بإزالةِ التنظيمات التي يصفها بالإرهابية التي تهدد أمن إسرائيل، لكن عليهِ هنا أن يستوعب بأن هذه الإزالة لا تتم فقط بالدمار والتهجير، ولكنها ترتبط أيضاً بإعادة خلق حيز جغرافي معين يحيط بالكيان ويشكل سواراً أمنياً حولها وهذا لا يمكن إلا بإعادة احتلال المزيد من الأراضي فهل هو قادر على ذلك؟ الجواب قطعاً لا، لن نتحدث هنا بصورةٍ عسكرية وهو الذي لم يستطع حتى الآن تجاوز قريتين في الجنوب اللبناني الصامد ليبرر هذا الإخفاق بعبارة «حدث أمني خطير في الشمال» ليُظهر إلى العالم بأنه يواجه «حالات أمنية» لا مقاتلين يدافعون عن بلدهم وقضيتهم، لكننا سنتحدث من منظورين:
المنظور الأول داخلي، فإعادة احتلال الأراضي يتطلب أولاً وأخيراً توافر القوى البشرية، كيف لهُ ذلك وهو أساساً اضطر إلى سحبِ العديد من الألوية من غزة وإرسالها إلى مقصلة الجنوب اللبناني، هذا ناهيك عن الضغط الداخلي المتمثِّل بالسعي لاستكمالِ اتفاق وقف إطلاق النار واستعادة الأسرى من غزة عدا الضغط الاقتصادي، بالمختصر فالكيان يعيش نزيفاً على كل الصعد، لا يرهبكم بشعاراتٍ رنانة من قبل «شرق أوسط جديد».
المنظور الثاني خارجي، وهو متعلق بضمان الكيان لاستمرارِ تدفق المعونات العسكرية أو «المعنوية» من الدول الحليفة، تحديداً الولايات المتحدة الأميركية باعتبار أن من تبقى هم مجرد «كمالة عدد» في البازار السياسي كفرنسا وألمانيا، لكن هذا الخيار سيكون مستحيلاً إن فكرَ نتنياهو بإعادة احتلال للأراضي، بمعنى آخر يبدو استخدام نتنياهو وطغمته لهذا المصطلح ناتجاً عن مأزقٍ ما يعيشه، فلا الاغتيالات باتت تجدي نفعاً ولا الاختراقات الأمنية أجهزت على الخيار المقاوم، بالسياق ذاته فإن لعبة الوقت لم تعد في صالحهِ تحديداً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الدول العربية الوازنة كالمملكة العربية السعودية والتي لا يمكن لأي فكرة شرق أوسط جديد مرورها بمعزل عن موافقتها، قدمت حتى الآن موقفاً متوازناً من الأحداث والتطورات الكبيرة تجسدت بلقاء الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان مع وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، في العاصمة القطرية الدوحة، على هذا الأساس يبدو كلام نتنياهو مجردَ استعراض إعلامي لا أكثر إلا في حالةٍ واحدة فقط لا غير لا أُحبذ التوسع بها كفكرة لكيلا نسير في حقلِ ألغام: ماذا لو كان هدف الاغتيال القادم هو المرشد الإيراني علي خامنئي؟!
كاتب سوري مقيم في فرنسا