بين «وحدة الساحات» واليوم الأول بعد الحرب.. هل اختارت إسرائيل حرب استنزافٍ طويلة؟
بقلم: فراس عزيز ديب
بانتظارِ النتائج النهائية لانتخاباتِ الرئاسة الأميركية التي ستجري يوم الثلاثاء القادم ويجري التنافس فيها بين المرشح الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترامب، والمرشحة الديمقراطية ونائب الرئيس الحالي كاميلا هاريس، فإن دبلوماسيةَ تقطيعِ الوقت واستمرار الإجرام الإسرائيلي المدعوم من المجتمع الدولي كانت هي السائدة في الأيام القليلة الماضية، ليخرجَ معها رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي بتصريحٍ يؤكد فيه «أن المؤشرات الدبلوماسية التي تلقتها بيروت، تؤكد تعنت إسرائيل ورفضها الحلول المقترحة والإصرار على نهج القتل والتدمير».
دبلوماسيةَ تقطيعِ الوقت، يبدو التوصيف الأدق لما جرى ويجري من حِراكٍ ومفاوضات لإنهاء الحرب على كل من لبنان وغزة، ولم يُكتب لها النجاح لأسبابٍ كثيرة، قد يأتي في مقدمتها أن هناك طرفاً لا يجد نفسهُ مضطراً الآن لخوضِ مفاوضات كهذه ستحمل ما تحملهُ من تنازلاتٍ على الجبهتين، أي أنه يحاول الرد على شعار «وحدة الساحات» بسلوك يؤدي إلى «وحدة استنزاف الساحات» فما الجديد؟
دعونا مبدئياً نتفق بأن ما مِن شعارٍ جامع لكل القضايا المحقة في هذا العالم، الشعار هو تلخيص بسيط لمجموعةِ أهداف بعيدة المدى، قد نختلف بقراءةِ هذه الأهداف، لكننا حكماً لا نختلف على المبدأ الذي وُجد من أجلهِ هذا الشعار، كمثالٍ بسيط هناك من يصدع رؤوسنا ليل نهار بأنه «يريد تحرير الأقصى والصلاة بالقدس» لكنني على المستوى الشخصي أرى الإسرائيلي عدواً ومحتلاً وحربي معه في الكلمة والسلاح هي لأجل ذلك، وآخر ما أُفكر بهِ من سيُصلي هنا ومن سيصلي هناك.
بهذا السياق، لا أعلم حقيقةً من الذي أطلق للمرة الأولى شعار «وحدة الساحات» للتعبير عن الوقوف حالياً بوجه الغطرسة الإسرائيلية على جبهاتٍ متعددة، وما تبعها من دمارٍ وخراب، لكن بمعزلٍ عن صاحبهِ الحقيقي، فمن الواضح بأن هذا الشعار وإن كان الهدف منه نبيل لكنه وللأسف مجرد حالة إعلامية لا معنى لها، وهو ما أثبتته التجربة العملية خلال ثلاث مراحل من لحظةِ بدء ما يسمونه «طوفان الأقصى»:
المرحلة الأولى، هي مرحلة انطلاق المعركة في السابع من تشرين الأول من العام الماضي، فوحدة الساحات كانت تستوجب بالأساس لحظة انطلاق موحدة على جميع الجبهات، أما استفراد جهة ما بهذا القرار وما حملهُ هذا القرار من تبعات، فهو حكماً ينسف فكرة وحدة الساحات تماماً كما نسفَ يوماً اتفاق «غزة ـ أريحا» أو ما عُرف بعدها بـ«اتفاق أوسلو» الهدف من عمليةِ سلام شاملة في المنطقة وأدى إلى استفراد المجتمع الدولي بالأطراف التي وقَّعت وطبَّعت.
المرحلة الثانية، وهي تلك المُمتدة إلى ما قبل العمليات المحكمة التي أدت لتصفيةِ قادة المقاومة اللبنانية ودخول لبنان رسمياً الحرب مع إسرائيل، حتى هذهِ اللحظة كانت وحدة الساحات هي فعل أخلاقي وإنساني، لكنه حكماً لم يكن يرتكز إلى الكثير من التنسيق على الجبهات أو إنه حتى في القرارات المصيرية أدى إلى الاستفراد الإسرائيلي بجبهة غزة لمدة عشرةِ أشهر، تحول حالياً إلى استفرادٍ إسرائيلي بجبهةِ لبنان بعدَ أن وصل الدمار والخراب في غزة إلى أكثر مما يريده العدو.
المرحلة الثالثة، هي مرحلة المفاوضات لوقفِ إطلاق النار، حيث إن الحديث عن وحدة الساحات سيجعل ميزان التفاوض غير متكافئ، ولكي تتضح هذه الفكرة دعوا عواطفكم جانباً ولنقرأ الواقع بموضوعية، فغالباً ما تكون نِقاط القوة في المفاوضات التي تلي المعارك العسكرية مستمدة من الميدان، بالوقت ذاته دعونا نعترف بأن الحروب هي الفرصة الكبيرة لتصفية الحسابات لأنها لا تأتي كل يوم، فمن يحمل شعار «مسح إسرائيل عن الوجود» ماذا تنتظر؟
على الجهةِ المقابلة لا تبدو إسرائيل بوارد تفويت فرصة كهذه، لكن عليها فعلياً أن تفهم بأن شعار «وحدة الساحات» وإن كان فيه الكثير من السلبيات لدرجةِ أننا لم نرَ ساحةً تُفتح في الضفة الغربية مثلاً، لكن من إيجابياته أنه سيجعل الإسرائيلي يفكر على مبدأ «السولد» بالمقامرة، لكي يربح كل شيء، فكيف ذلك؟
لا يختلف اثنان بأن حال الجبهة اللبنانية وجبهة غزة فيهما الكثير من الاختلاف، فإذا كانت حماس متحررة داخلياً من كل الضغوط أو ما يمكننا تسميته بـ«المعارضين» لنهجها، فإن وضع المقاومة اللبنانية لا يبدو كذلك، البعض ربما يذهب أبعد من ذلك عندما يقول: إن الحال متشابه إلى حدٍّ بعيد من حيث المعارضين في الداخل، الفرق فقط بأن «أعداء المقاومة» في لبنان لديهم مساحة لقول ما يشاؤون، عكس خصوم حماس في غزة الذين يريدون استنساخ تجربة الضفة الغربية، لا هامش لديهم.
بالسياق ذاته تبدو جبهة غزة محاصرة بالكامل، مما يعني فقدان القدرة على إعادة تجميع قوتها، أي أنها في هذا الوقت إن ضربت صاروخاً باتجاه المستوطنات المجاورة فهي ستفقد حكماً القدرة على تعويضه، عكس المقاومة اللبنانية التي كانت ولا تزال قادرة على تجديد نفسها، لكن إلى أي حد، هل إلى الحد الذي يمكنها معهُ صناعة الفارق العسكري خارج الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة؟ أم إلى الحد الذي يمكنها معه فرضَ شروطٍ في التفاوض بما فيها وقف العدوان على غزة؟
من المفيد هنا عدمَ إعطاء جواب محدَّد كي لا ندخل كما جرت العادة مع أسئلة كهذه في حقل ألغام لا نعرف كيف نخرج منه، بل قراءة المعطيات التي ستفتح الباب على الكثير من الأجوبة، فأمس أعلن البنتاغون عن قرارٍ بإرسال وحدات قتالية جديدة إلى الشرق الأوسط، لكن وبعيداً عن السبب الحقيقي لإرسال هذهِ القوات والذي يأتي في مقدمتها «الدفاع عن إسرائيل»، فإن ما يميز بيان البنتاغون هو الحديث عن وصول هذه القوات تباعاً «خلال الأشهر القادمة»، هذا يعني بأن هناك من يحضِّر ولو ضمنياً لمعركةِ استنزافٍ طويلة الأمد في كل من غزة ولبنان، عملية الاستنزاف تلك ستستهدف إنهاك كامل القدرات العسكرية التي تتمتع بها المقاومة على الجبهتين، مع ضمان قطع كامل طرق الإمداد إليها عدا المتعلقة بالمساعدات الإنسانية.
بذات السياق، لا يبدو رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وكأنه يعيش الضغوط ذاتها التي كان يعيشها قبل أشهر، فهو استطاع إقناع الإسرائيليين بأن ما ستجنيه إسرائيل في نهاية المعركة يبدو أهم بكثير من التفكير بملف الأسرى، كما بات يبتز خصومهُ حتى في قصة المسيَّرة التي قالوا إنها استهدفت منزله ليخرج منها كـ«بطلٍ» وناجٍ من محاولة اغتيال، وأخيراً يبدو وكأنه مرتاح لما ستسفر عنه نتائج الانتخابات الأميركية القادمة لأن الدعم الاقتصادي والعسكري اللذين يشكلان عائقاً أمام الدول في معارك كهذه لا وجود لهما عند الكيان إذا ما اقتنعنا بأن التعاطي الأميركي مع إسرائيل مشابه للتعاطي مع ولايةٍ أميركية لا يمكن السماح بسقوطها، وإن كان الكيان ضمنياً يفضل كاميلا هاريس عكس ما يُشاع عن تفضيله لترامب، والسبب هنا واضح، لأن ترامب سيبحث عن مصلحة الولايات المتحدة أولاً في الصراع على مستوى المنطقة.
ختاماً؛ دائماً ما تبدو المفاوضات لوقف الحرب تصطدم بمعطى أساسي، ماذا بعد اليوم التالي للحرب؟
لا تُخفي القيادة الأميركية وتابعوها من الاتحاد الأوروبي تبني الموقف الإسرائيلي بالكامل المنادي بوحدة الساحات لكن على طريقتهم، أي أن اليوم التالي للحرب يجب أن يكون بلا مقاومة؛ لكن فرض شرط كهذا بحاجة لإنجازات على الأرض لا تبدو متوافرة حالياً بمفهومهم لوحدة الساحات، إذ نجحت المقاومة الوطنية اللبنانية حتى الآن بمنع العدو من تحقيق أي إنجاز عسكري يمكنه الاستناد إليه لفرضِ شروطه، أهمها إبعاد المقاومة اللبنانية إلى شمال نهر الليطاني، مع العلم أن تصريحات رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري والذي يُعتبر مفوضاً من قبل المقاومة للتفاوض، كانت قد أكدت بأن لبنان جاهز لتطبيق القرارات الدولية!
أما في غزة فيبدو المشهد مختلفاً، وهذا طبيعي وفق اختلاف الظروف والحرب التي طالت لأكثر من عام، لذلك يرى الإسرائيلي أن هذه الفرصة لن تتكرر في الساحتين، إما الانتهاء مما يسميه خطر هذه «المجموعات المسلحة» أو استمرار الحرب، لأنه يريد فرض شرطه الأساسي بما يتعلق باليوم الأول بعد نهاية الحرب، قد يكون شرط قطاع غزة بلا حماس قابلاً للتحقق إن نجحت المساعي المصرية لجمع فتح وحماس من جديد وتشكيل قيادة موحدة تدير القطاع بعيداً عن الأجنحة العسكرية لفصائل المقاومة، لكن فيما يبدو فإن الوضع في لبنان أكثر تعقيداً بملايين المرات، ومن الواضح أيضاً بأن الكيان جهَّز العدة لحربٍ طويلةِ الأمد، يريد فيها فرض شروطه، ما لم تحدث معجزة ما، هذه المعجزة حكماً لا علاقةَ لها بالانتخابات الأميركية!
كاتب سوري مقيم في فرنسا