جبهتان لكورونا
بقلم: بنت الأرض
يعمل فيروس كورونا على جبهتين متوازيتين إحداهما واضحة للعيان والثانية أشدّ تعقيداً وغموضاً. فأمّا الجبهة الأولى، فهي اصطياد البشر والموت والرعب الذي بثّه في قلوب المليارات من البشر، والذي غيّر الحياة البشرية وتصرّفاتها وعاداتها على هذا الكوكب، وهذا كلّه محسوس وملموس من قبل الجميع، وهو الموضوع الأساسي الذي تتابعه البشرية يومياً على شاشاتها. أما الجبهة الثانية الغامضة والمعقّدة، والتي سيكون أثرها أكبر صدى وأطول مدى في التأثير على حياة الناس، فهي الأسئلة المطروحة في كلّ البلدان وعلى كلّ الجبهات حول أداء الأنظمة وكفاءة الحكّام والحكومات ونجاعة الأنظمة الطبية، ومدى صحة المعايير التي كانت متّبعة في الحياة العامة والسياسية وجدوى أساليب الحكم، وصوابيّة القيم والأخلاق التي تحكم المجتمعات البشرية في البلدان المختلفة، وما إلى هنالك من أسئلة لا تحصى تبشّر بعمل جديد كلّياً وعلى أسس مختلفة تماماً عن العالم الذي عهدناه واعتدنا عليه. وفي هذا الصّدد أودّ أن أضرب مثالين من ضمن عشرات الأمثلة التي تحضرني حول هذه المواضيع المتعدّدة والمطروحة بقوّة اليوم على مختلف الساحات وكلّ طبعاً يجيّر ارتدادات الأحداث بسبب هذا الفيروس ليطرح نظريته ويبرهن على صحّتها. فقد نشرت “ذا ناشيونال” مقالاً بعنوان: “في الغرب كورونا فيروس يجبر الشعبوية أن تأخذ إجازة مرضية”. وقد اعتبر هذا المقال أنّ الرئيس ترامب يمثّل النسخة الغربية من الديماغوجية التي تمثل الناس الحقيقيين والمنسيين ضدّ “النخبة والخبراء والمهنيين” وهذه مختلفة عن شعبوية بوتين التي تمجّد الدولة وأيضاً مختلفة عن النسخة الصينية التي تبجل حكمة وسلطة الحكومة. ويتعرّض المقال للتعامل المهين مع الخبراء والمهنيين من قبل ترامب، وادّعائه “أنّه بإحساسه السليم يعرف أكثر منهم جميعاً”، ولكنّ هذا المنطق قد لا يصمد بعد فشله في الاستعداد والتصدّي لفيروس كورونا في بلده. ويعتبر هذا المقال أنّ ترامب وإلى حدّ كبير بوريس جونسون قادا حملة إضعاف الحكومات وعدم إيلاء أيّ اهتمام للعلماء والخبراء وقد عاملهم ترامب باستهانة كبيرة حتى وإن كان هو الذي اختارهم وعيّنهم. وأعتقد أنّ ترامب جسّد ظاهرة كانت متنامية في الغرب، ألا وهي تسليط الأضواء على فئات لم يكن لها دور يوماً في تقدّم المجتمعات، مثل الرياضيين والممثلين، وإغفال طبقة العلماء والمفكرين والخبراء. وإن كانت هذه وللأسف ظاهرة عالمية خلال العقدين الأخيرين. ولا شكّ أنّ مكافحة هذا الفيروس والتي تحتاج أولاً وأخيراً إلى العلماء والمختصّين القادرين سوف توجّه ضربة قاصمة إلى الموقف الذي حاول الحطّ من قدر هؤلاء. كما أنّ الأنموذج الذي قدّمته الصين في مكافحة هذا الفيروس والذي كان للدولة القوية والتقنيات المتقدمة والعلماء والخبراء الدور الأهمّ يعتبر اليوم أنموذج الدولة القادرة على حماية أبنائها في الأوقات العصيبة، وهذا بالذّات ما يطمح كلّ شعب أن يراه في دولته. أما إشارات ترامب إلى الفيروس الصيني فقد أصبحت مجال تندّر وعدم احترام من قبل الناس، كما أنّ تذرّع بعض الحكومات الأوروبية ومسؤولين سابقين مثل نائب رئيس الوزراء السابق الإيطالي، ماتو سالفيني، والذي حاول إلقاء اللوم في انتشار الفيروس على المهاجرين واللاجئين، فلم تعد تجدي نفعاً ولم تعد مقنعة لأحد. هذه الإشارات العنصرية قد سقطت اليوم من خلال فيروس عابر للحدود والقارات والبلدان والإثنيات والأعراق والأديان، ولا بدّ أن تكون الحلول المجترحة لمواجهته على مستوى هذا التحدّي؛ أي لا بدّ أن تكون لا عنصرية ولا ديماغوجية ولا طبقية ولا عرقية ولا دينية، وهي بهذا فقط يمكن أن تبشّر بضرورة تعاون دولي مبنى على أسس الاحترام والندّية، وبعيداً عن عنصرية واضحة أو مغلّفة بفوقية غربية تجاه شعوب الأرض الأخرى، وأيضاً تبشّر بمزيد من الاحترام داخل حدود الدول لهؤلاء الذين يدفعون عجلة التقدّم والاكتشافات العلمية والاختراعات الطبية، التي تضمن أمن وصحة البشرية. كما قال المفكر السياسي المهم، والتر روسيل ميد: “إنّ الأبعاد الطبية والاقتصادية لهذا الوباء تدعو إلى قيادة للخبرات وتعاون دولي، وهذا يمكن أن يقود إلى عودة الدولة المركزية في الغرب وإحياء التعاون الدولي”.
أما الدكتورة ليزا ماكينزي، من جامعة دورهام – بريطانيا، فقد تحدّثت عن معاناة الطبقة العاملة في بريطانيا، وخاصة نساء الطبقة العاملة وأنها عملت على مدى سنوات كي تُسمِع العالم صوت هؤلاء النسوة، ولكن النتيجة كانت توجيه المزيد من اللوم لهؤلاء باعتبارهنّ اخترن أن ينجبن أولاداً يخلقون المشاكل للنظم السائدة بسبب فقرهم، وعدم حصولهم على المؤهلات اللازمة، وكيف أنّ الإعلام إمّا أن يتّهم هؤلاء النسوة بالتقصير أو الغباء، وتضيف أنّ الطبقة الكادحة اليوم في كلّ أنحاء العالم هي التي سوف تتحمّل القسم الأكبر من المعاناة خلال وبعد فترة العزل وتختم مقالها بالنداء: “رجاء اسمحوا لنا أن نخبركم قصصنا”، أيّ توقّفوا عن الكلام باسمنا وأنتم لا تعرفون شيئاً عن معاناتنا. هذه الجملة عزفت على وتر حسّاس لديّ وأنا أقرأ تصريحات مارك بومبيو، وزير الخارجية الأمريكي، حول سورية والاحتياجات الطبية لسورية خلال انتشار هذا الوباء، والعقبات التي تمثّلها الإجراءات القسرية الأحادية الجانب المفروضة ظلماً وعدواناً على الشعب السوري، والتي تصادر حقّه في الحصول على الأدوية اللازمة له. فقد صرّح بومبيو أمام الكاميرات أن العقوبات لا تعيق وصول المساعدات الإنسانية قائلاً: تعمل الولايات المتحدة في كلّ البلدان الخاضعة للعقوبات لمحاولة المساعدة في حصولها على مساعدات إنسانية ليس فقط من الولايات المتحدة بل من الدول الأخرى أيضاً، وأنّ الولايات المتحدة قدّمت معونات بملايين الدولارات للشعب السوري. ولكنه أغفل حقيقة هامة في هذا التصريح، وهي أنّه يرسل المعونات للإرهابيين في إدلب وشرق الفرات، وأنّ العقوبات القسرية قد منعت الشعب السوري من الحصول على أدوية أساسية قبل انتشار وباء كورونا. والسؤال هو كيف يقف وزير خارجية دولة كبرى ليتكلّم كلاماً يعلم علم اليقين أنه مجافٍ للحقيقة والواقع. وهذا ينطبق تماماً على كلّ التحركات الأمريكية في العراق والتي تقوّض ما تبقّى من سيادة العراق وقراره المستقلّ بذرائع وحجج مختلفة، كما أنها تستهدف الجمهورية الإسلامية الإيرانية وحضورها داخل العراق، وأيضاً محاولة ترويعها بينما هي منشغلة في إنقاذ أرواح سكانها من هذا الوباء المنتشر.
والسؤال هو هل ستتكاتف الأصوات الحرّة من داخل الدول الغربية وخارجها في المرحلة القادمة لتضع حداً للكذب والنفاق الذي ميّز المرحلة الإعلامية الماضية، حيث أصبحت القصص المختلقة في الإعلام أحد أدوات الحرب سواء ضدّ شعوب بلدانها في الداخل أو ضدّ الشعوب المستهدفة في الخارج، فقد تعالت الأصوات اليوم لوقف القتال في كلّ المناطق المستعرة؛ سورية وليبيا وغيرها، ولا شكّ أنّ هذه الأصوات المنحازة للقوى الإرهابية المدمّرة لا تهدف إلى السلام والاستقرار، بل إلى تغيير موازين القوى لصالح عملائها وممثليها الذين عاثوا في الأرض فساداً بعد تمويلهم وتسليحهم من قبل هذه القوى. كما أنّ القضاء على هذا الوباء يتطلّب تعاوناً دولياً صادقاً، وكما أنّ الصين وروسيا قدّمتا الأنموذج الأصدق والأهمّ في هذا التعاون، فإنّ الجبهة الثانية المعقّدة والشائكة بحاجة إلى تعاون خبراء وعلماء وسياسيي العالم لمرحلة دولية جديدة تعالج كلّ هنات المراحل السابقة على الصعيدين المحلّي والدولي. والأمر الأهمّ في هذه المعالجة هو وضع أسس تنطبق على الجميع وتساوي بين الدول في الاحترام بغضّ النظر عن القوة والضعف أو الصغر والكبر، ولا تسمح أبداً لحكومة أيّ بلد في العالم أن تهدّد حكومة بلد آخر فقط من أجل وضع اليد على خيراته وثرواته تماماً كما يحدث لحكومة فنزويلا اليوم، والتي تتعرّض لتهديد غير مسبوق من قبل الولايات المتحدة فقط لأنها تملك أعلى احتياطي للنفط في العالم. هل يمكن لفيروس أخاف البشرية وحجر نصف سكانها في بيوتهم أن يشكّل جرس إنذار وحافز لتصحيح المسار لما فيه خير الناس جميعاً على هذا الكوكب؟ هل يمكن لهذه المرحلة الصعبة التي نعيشها جميعاً اليوم أن تكون نافعة في كشف العثرات والمطبات التي أوصلت معظم سكان الأرض إلى مرحلة لا تُحمد عقباها، وهل يمكن لها أن تعيد الاعتبار للمفكرين والخبراء والعلماء كي يرسموا خريطة طريق لمستقبل أفضل لا مكان فيه للعنصرية والاستغلال والهيمنة؟ كما اتّحد العالم للقضاء على العنصرية في جنوب أفريقيا ونجح، قد تكون هذه فرصة لتعاون دولي غير مسبوق يعود بالفائدة ليس على عالمنا فقط، وإنما على عالم الأبناء والأحفاد مستقبلاً.