«جزر المنفى» بين الاتحاد الأوروبي وطالبان.. هل ستصغي سورية للتوسلات الأوروبية؟
فراس عزيز ديب
في ربيعِ العام 2015، ومع بدءِ وصولِ موجة اللاجئين الأولى والأضخم إلى أوروبا، اتصلت إحدى الجهات البلَدية في فرنسا بمواطنٍ فرنسي من أصولٍ سورية طالبةً منهُ المساعدة بالعملِ كمتطوعٍ لمساعدةِ اللاجئين الوافدين إلى المدينة، إن كان عبرَ شرح الأمور الأساسية لهم باللغةِ العربية، أو البدءِ بملفاتِ طلبات لجوئِهم القانونية، كان جوابه برفضِ المساعدة، ما أثارَ يومها استغرابَ الجهة التي طلبته متحدثةً عن المبادئ الإنسانية وغيرها، لكن الرجل برَّرَ موقفهُ بطريقةٍ بسيطة: أنا جاهز لمساعدةِ أي لاجئ تضمنونَ لي المرجعية التي كان ينتمي إليها قبل مغادرتهِ سورية!
لا يبدو الرجل بأنهُ كان يتحدث من مبدأ «موالي أو معارض»، نُعيد ونذكِّر بأن صفة «معارض» ليست تُهمة، هي خيار سياسي يلقى كل الاحترام طالما أن من يحمِل هذه الصفة يعمل بالأطر التي تحمي وحدة سورية واستقلالية قرارها، لكنه تحدث عن المرجعية المرتبطة باحتماليةِ انخراطِ هذا اللاجئ بتنظيماتٍ راديكالية إرهابية، كجماعة الإخوان المسلمين وجبهة النُصرة وداعش، هذه بمجوعها قاتلت ضد الجيش العربي السوري وارتكبت جرائمَ بحق المدنيين والمدن الآمنة، ثم جزء كبير منهم قرَّر أن يحلق اللحى ويذهبَ إلى بلادِ «الكفار»، ليتفرغَ هناك إلى نشرِ أفكارهِ المسمومة بينَ من لم يكتوِ بعد بنار الإرهاب، تحديداً بعدَ أن داست أحذية الجيش العربي السوري والقوات الرديفة طموحاتِهم ببناءِ دولتهم الإسلامية المزعومة!
ربما كان هذا الجواب ومن دونِ قصد، تأسيساً لقراءةٍ مستقبلية بسيطة مبنية على فكرة أن للحربِ ضحايا كثر بما فيهم الحقيقة، ليسَ فقط حقيقة من بدؤوا الحرب ولماذا؟ أو حقيقة من استغلوا هذه الحرب ليصبحوا أثرياءَ في الداخل أو للوصول إلى «جنة بلاد الكفار»، لكننا نتحدث عن حقيقةِ الفصل بين ما هو إنساني وما هو مرتبط بالتنظيمات الإرهابية التي ستصول وتجول في الدولِ الأوروبية يوماً دونما حسيبٍ أو رقيب، كانت الأجهزة الأمنية الأوروبية عموماً والفرنسية والألمانية خصوصاً، لكونهما أكثر الدول استقبالاً للاجئين، على معرفةٍ كاملةٍ باستحالةِ التوصل إلى الأفكار التي كان يحملها اللاجئ قبل وصوله، أو حتى ماضيهِ في الانتماء إلى التنظيمات الإرهابية من عدمه، حتى وإن حدث ذلك فكان بمحض المصادفة كتلكَ التي أوقعت المجرم الناطق السابق باسم «جيش الإسلام» إسلام علوش، وكان السبيل الوحيد أمامَهم للحصولِ على هذهِ المعلومات يشيرُ باتجاهٍ واحد فقط لكنهم ببساطة تجاهلوه، لأن هدفهم لم يكن حماية شعبهم بقدر ما هو استمرار العبث في استقرار دول الشرق البائس، فكيف ذلك؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال دعونا أولاً نُعيدُ قراءة خبرٍ لم يأخذ حقهُ في الإعلام كثيراً، حيث أعلنت السلطات الألمانية عن ترحيلِ نحو 28 لاجئاً أفغانياً إلى أفغانستان جميعهم تورطوا بجرائمَ على الأراضي الألمانية، وهي المرة الأولى التي تقوم فيها دولة أوروبية بهذا الإجراء منذ استيلاءِ طالبان على السلطة بعدَ اندحارِ القوات الأميركية قبلَ ثلاث سنوات عن البلد الذي احتلتهُ بذريعةِ الحرب على الإرهاب، وتركته كما هي عادتها كأهم مستنقع للإرهاب، هذا الخبر جاء بعدَ حادث الطعن الذي قامَ به لاجئ سوري يحمل أفكاراً متطرفة في مدينة زولينغن وأدى إلى مقتلِ أربعة أشخاص وتبناهُ تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام رسمياً.
هذا الخبر ظهر كأنهُ أشبهَ بتنفيسِ احتقانٍ للشارع الألماني الذي بدا ساخطاً من سياسةِ استقطاب اللاجئين، لكنهُ بالسياق ذاته فتح الباب على الكثير من التساؤلات: هل حقاً بأن جميعَ من تم ترحيلِهم أفغان؟ أم أن أفغانستان بوضعها الحالي حيث لا يحظى حكم حركة طالبان بأي اعتراف أوروبي، قادرة وعبرَ الوسَاطات القطرية أن تتحول فعلياً إلى «جزيرة المنفى» لمن يخالفون القوانين الأوروبية؟
تشير الكثير من المعلومات المتقاطعة بأن الحكومة الألمانية تكذب، فمن تم ترحيلهم ليسوا أفغان فحسب بل كان من بين من تم ترحيلهم لاجئون سوريون ارتكبوا جرائمَ مشابهة وبعضهم أنهى سنوات عقوبته في السجون الألمانية لكنهم لا يريدون عودته إلى المجتمع الألماني، أما ترحيلهم إلى أفغانستان فهو بسبب اتفاق مبطنٍ مع حركةِ طالبان كان المستشار الألماني أولاف شولتز يسعى إليه منذ العام الماضي، يومها لاقى اقتراحهُ بترحيل اللاجئين مرتكبي الجرائم إلى أفغانستان معارضة برلمانية بسبب عدم وجود قنوات تواصل مع حركةِ طالبان لكونها وحسب القوانين الأوروبية «تنظيم إرهابي يمارس الإرهاب القسري ضد النساء والأقليات ويحكم بالشريعة الإسلامية»، لكن عندما وجدت السلطات الألمانية مصلحتها بفتحِ قنوات اتصال مع حركةِ طالبان لتتخلص من كل هؤلاء مقابل مساعدات بمسمى «مساعدات إنسانية لدعم وتمكين تحرير المرأة الأفغانية»! لم تتردد في ذلك، فهل لهذا النفاق الأوروبي ثمن؟
لا يمر يوم إلا وتتصدر قضايا اللاجئين ومسألةَ الهجرة عنواناً من عناوينِ وسائل الإعلام الأوروبية المقروءة والمسموعة، لأن التعاطي مع هذا الملف يكاد يتقدم حتى على الحرب الأوكرانية، لكن ما حدثَ بين حكومةِ طالبان والحكومة الألمانية أعادَ الملف بقوةٍ إلى الساحة السياسية، والحاجة الماسة للتواصلِ مع الدولة السورية للتنسيقِ بهذا الملف، القضية ليست مرتبطة فقط بفكرةِ الاندماج من عدمهِ، فاللاجئ القابل للاندماج لن يستهلك الكثير من الوقت، لكن من يتعثر اندماجهم يشكلون مستقبلاً قنابل موقوتة لا أحد يعرف متى ستنفجر، تعثر الاندماج ليس مرتبطاً بحمل الأفكار الراديكالية فحسب، بعض الاختصاصيين يرون بالعنف الأسري إرهاباً، العزوف عن العمل والبقاء على ما تجود به الحكومة من مساعدات إرهاباً، من يرفضون ذهاب أطفالهم إلى المسابح إرهاباً، التحرش المعنوي وغيره، لكن المشكلة أين سنذهب بمن يحملون أفكاراً كهذه؟ أو على رأي أحد المعلقين الألمان: هل عرفتم اليوم لماذا حاربهم «نظام الأسد»؟
يدرك كثير من المحللين الأوروبيين الذين يستعجلون حدوثَ تقاربٍ من هذا النوع، أهمية فتح قنوات الاتصال من جديد مع الجهات الرسمية السورية، أحدهم عبرَ عن استغرابهِ من القدرة على التعاطي مع طالبان والتعنت بما يتعلق بسورية، لكن مشكلة هؤلاء بأنهم يقاربون نصفَ الحقيقة، فالوضع في سورية لا يمكن مقاربته مع الحالة الأفغانية، وفتح قنوات الاتصال مع الدولة السورية بحاجة إلى مفاوضٍ يملك الكثير من أوراق القوة التفاوضية لكي يفرض شروطه، فالتفاوض مع الحكومة السورية ليسَ نزهة قياساً بما تمتلكه الدبلوماسية السورية من خبرات متراكمة في التعاطي مع ملفات كهذه، لكن ما هي هذه الأوراق الذي يمتلكها الأوروبيون؟
ربما لسنا بحاجة للإجابةِ عن هذا السؤال، فهناك في أفغانستان حيث الدولة منهارة وسلطة لا يعترف بها إلا من يشبهها، لذلك فهي تبدو مضطرة لقبول الكثير من التنازلات بما يتعلق بالعلاقة مع الأوروبيين، وتحويل أفغانستان إلى موطئ للمبعدين من الدول الأوروبية على اختلاف جنسياتهم، أما الوضع في سورية فهو مختلف، نحن نتحدث عن دولة وسلطة لم تسقط، عن جيش لم ينقسم، نتحدث عن قطيعةٍ لم تكن سورية هي من بدأَتها، بل سوء التعاطي الأوروبي مع الملف السوري هو من بدأَها عندما جعل نفسه طرفاً في معركةٍ لا ناقةَ له فيها ولا جمل، والأهم من كل ذلك، فإننا نتحدث عن بلدٍ لم يعد لديهِ شيء ليخسره بما يتعلق بالعقوبات الاقتصادية والانفتاح، وقد عاش هذا البلد أعواماً لم يستقبل فيها إلا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف، لذلك لا تبدو سورية مستعجلة لأمر كهذا، هي لم تستعجل المفاوضات مع الأميركي، ولم تستعجل المفاوضات مع التركي، فكيف لها أن تستعجل مفاوضات على ملف يبدو ترتيبهُ متأخر جداً في سلم الأولويات؟
بكل تأكيد فإننا نحترم كل الأفكار التي تحاول وضعَ الأمور في نصابِها الصحيح بما يتعلق بالعلاقةِ الأوروبية مع سورية، لكن إظهار هذه الأفكار وكأنها نوع من التعامي الأوروبي الطوعي عن «التجاوزات الرسمية السورية» أو تقديم الأمر كحالة استثنائية مضطر لها الاتحاد الأوروبي ليحمي أمنه هو بذاءة سياسية وإرهاب أخلاقي لا يقل إجراماً عن إرهاب الخلايا النائمة بين أحضان الديمقراطيات الأوروبية بعدَ ما ارتكبته من إجرام بحق الشعب السوري، بالسياق ذاته فإن سورية لن تكون كما يريدها البعض «مكبَّاً للنفاياتِ» المتأسلمة التي لا يُريدها الغرب، سواءَ أكان ثمنَ ذلك عودةَ العلاقات من عدمه، وبمعنى آخر: من يريد الحديث عن داتا معلومات أمنية كانت أو غير أمنية، أو إرسال لاجئين لمحاكمتهم في سورية أو إعادتهم لأنهم لا يناسبون المجتمعات الأوروبية فالطريق إلى ذلك واضح وصريح ولا يحمل أي تأويل، عودة العلاقات الدبلوماسية أولاً وإلغاء العقوبات الاقتصادية ثانياً، عدا عن ذلك فإن سورية لن تستجدي أحداً، بل عليهم أن يتذكروا بأن الإرهابي الذي يحمل أفكاراً متطرفة سيتحول بعد شهرين من الاعتقال إلى أربعة إرهابيين، هذا إن افترضنا أساساً أن من يشاركهُ الزنزانة ذاتها هم فقط خمسة سجناء؟ يا لها من متوالية حسابية!
كاتب سوري مقيم في فرنسا