العناوين الرئيسيةسورية

حين اغتالت “الوطن” أحلامنا بالثورة ونغصت علينا فرحة التحرير

ثمة تحولات لا نعرف كنه تفاصيلها، سوى بمردها للعبة الأقدار، والعدالة المحققة وإحقاق الحقوق ولو بعد عقود، بما حملته من قساوة وتعسف وظلم حتى بين رواد الكلمة وممتهنيها.
ها أنا أنموذج، بعد أن اغتالتني جريدة ” الوطن” و مثلي زملاء كثر، مستهترة بقتلنا وتهجيرنا واغتصاب حقوقنا، نعاود الكتابة فيها عن مظلوميتنا ومن وقف خلفها، شريكاً لسلطة القمع والقتل والاعتقال والتهجير.
فقد نكأت مقابلة وضاح عبد ربه رئيس تحرير الوطن السورية سابقاً، عبر قناة «الميادين» مؤخراً، جراحاُ أجهد يومياً كعشرات الصحفيين السوريين لطيها، إيماناً باستحقاقات العهد الجديد لسورية والسوريين.
قاسية ومؤلمة وموجعة،طي ذاكرة البدايات، تشبه أن تغتال بصدرك من شريك، أو قسوة أصابعك تضغط لتعصر قلبك أو روحك.
لكأنه ما عاد ينفع أن تضع ملحاً على جرحك المفتوح منذ سنوات طوال.
كشاهد ما زلت بين ضفتي مشاهد موت قريب، وأمل العلاج والتعافي، كمراسل ل” الوطن” الجريدة حين خذلتنا مع أولى صرخات حوران وشبابها وآمالهم وموتهم، “الوطن” الجريدة التي يخذلها “عبد ربه” مجدداً وهي تعانق شوارع السوريين احتفاء بنصرهم وعتقهم من جحيم الأسد البائد.
كأنها للتو بدأت فتخذلك “الوطن” مرتين، بدقة أكثر يخذلنا رئيس تحريرها سابقاً.
كانت الصحافة الخاصة، حلم وأمل السوريين، وقد جاءت بعد حرمان عقود أشبه بولادة عسيرة فاحتضنها السوريون، وتلهف للعمل معها مئات الصحفيين، لكنها سرعان ما كشفت نوع العلاقة” الفاسدة ” بين السلطة وإدارتها، فطعنت الجميع بحرابها المسمومة، معلنة خيانة علنية، موثفة بسطورها وأرشيفها، خيانة للقيمة العليا للإنسان والاستحقاق والضمير المهني وواجباته الأخلاقية.
بعض من الذاكرة الموجوعة. الساعة الثانية ظهيرة الجمعة 18 آذار 2011 كنت قد تلقيت أول اتصال من رئيس التحرير “عبد ربه” على وقع أولى التظاهرات في مدينة درعا، والتي انتهت باستشهاد أول شباب الثورة، محمود جوابرة وحسام عياش.
ثمة قلق كأني قرأته عبر الفضاء اللاسلكي، من رقم خاص، سمة المسؤولين بذاك العهد، شعرت بأن رئيس التحرير كان أقرب” للتطمين بأنها لن تمر من دون عقاب ومحاسبة”.
تسارعت الساعات وقتل في يوم التشييع التالي شباب أخر، تلقيت مزيداً من الاتصالات، لكن هذه المرة سيكون السؤال بداخلي أما آن ل”الوطن” أن تصل إلى حوران فتقف مع الناس تعزي بمصابهم وتضمد جراحهم وتقول كلماتها ورسالتها كما عاهدت السوريين حين انطلاقتها.
صباح اليوم الرابع موعد إصدار الجريدة بحلتها الورقية حينها، خرجت طبعتها وقد أعلنت الخطاب الرسمي نفسه للإعلام السوري، (سانا والتلفزيون).
كما لو أنها” الشعرة التي قصمت ظهر البعير” ، فقد كنت أنوي الاحتماء بموقف معتدل ل”الوطن”، يلعب ببعض الهوامش المتاحة، والتي يمكن أن تخفف حنق الشارع من” مندسيه” و تنيمطه وتلبيسه وتوصيفه بما لم يكن منه، وهذا ما كنت أكرره ل”عبد ربه”.
ـ الناس في الشوارع عراة، شباب مسالمون، الأمن هو من يقتل، يؤجج المشهد ويزداد الوضع خطورة.
تسارعت الأيام وزاد خطاب “الوطن” اتساقاً مع الخطاب الرسمي، عرفت لاحقاً من بعض زملاءي أن موقف” عبد ربه ” ملكي أكثر من الملك، وقد أفضت تظاهرات جامع الحسن في دمشق عن اعتقال مصور الجريدة، ورغم تكليفه المسبق من رئيس القسم بالتغطية، لكن رئيس التحرير رفض إرسال أمر مهمة التصوير حيث تم اعتقال المصور.
أخذت شهيقاً عميقاً، بعد عبورنا الطريق، كسجين يقرب رئتيه من الطاقة السوداء، سألت محدثي
ـ كيف أتصرف، الشارع، الناس، صوتهم صراخهم ” الإعلام السوري كاذب. كاذب كاذب”.
أسأل وضاح عبد ربه فأجابني دون إضافة.
حين خرجت من اعتقالي بإدارة المخابرات الجوية منتصف الشهر الخامس، سألني رئيس التحرير عابساً، وآثرت كبت قهري بربع ابتسامة صفراء، كنت أكتم صرخة السؤال لماذا تساهم في اغتيالنا.
سيتكرر المشهد ذاته والأسئلة والإغتيال ذاته، لكن مع فارق التوقيت هذه المرة، عشية تحرير سوريا من سلطة الأسد، خابت كل أحلامي الطفولية، كما لو كنت هناك في حوران عشية انطلاقتها، صحيح الظرف اختلف لكن الشخصيات التي كانت حليفة لنظام الأسد، لن تزغرد للحرية، لم تتصل لنتبادل التهاني، لنحلم بغدنا المشترك، لا وعود بعودة حقوقنا المغتصبة سواء المادية منها أو المعنوية.
اغتيال جديد، كسابقه، التاريخ يتكرر بشخوصه أيضا، ثمة سطوة وتماه مع السلطة سيحتاج إلى وقت طويل للتعافي، للاستيقاظ على فجر الحرية الجديد.
لا يريد “عبد ربه” وكل من شابهه، مصالحة وسلاماً، فيذهب لنكىء أوجاع نريد طيها.
اختياره قناة الميادين، رغم خياراته المتعددة والمتاحة، يعني رغبة الاستمرار في الاصطفاف السابق، وتهشيم جراح السوري وآلامه، ونكء ذكرياته الفجائعية كحالي بهذه السطور.
انطلق ” عبد ربه” خلال المقابلة المتلفزة، من رواية مفبركة متسقة مع النظام الأسدي منذ الأيام الأولى، يمكنني تكذيبها جملة وتفصيلاً، وشهود المرحلة أحياء.
لم يعتد أحد على وفد الجريدة، بل وصل زميلي زياد حيدر والتقى اللواء الهنوس المكلف حينها محافظاً لدرعا بعد إقالة فيصل كلثوم، وحين سمعت لغة الحوار بينهما أدركت أن ثمة كارثة قادمة.
الحوار مع “الميادين” مليء ومشابه” لانحراف” البداية، وحسب معرفتي، ربما أن النظام لم يتدخل بالتفاصيل العامة، فقد أراد من “الوطن ” ان تكون سوطه بوجه الوزراء والحكومة، ولكن المؤكد أن الصفحة الأولى، حيث أخبار النظام البائد، كانت لا تُطبع قبل موافقة القصر الحمهوري، وتحذف وتعدل ما تشاء، وحتى تعيين المرحوم جورج قيصر وخلفيته “الحزب القومي الاجتماعي” كانت بفرض من رامي مخلوف أو مقربيه، فيما رفض “عبد ربه” كل العفو والتسامح من السلطة الجديدة بدمشق، بعد التحرير، وطلبها بقاءه رئيساً للتحرير مع شرطها المراقبة قبل النشر، نظراً لحرج المرحلة، وتصيد “الوطن” على يد رئيس تحريرها، لتنتهي به لطلب الحماية الدولية بعيد مغادرته دمشق واحتفاظه ببعض معرفات وحسابات الجريدة.
في مفارقات اللقاء، تلك “الروح الإنسانية” التي تبدي حرصها على صحفيي الجريدة وعملهم مع السلطة الجديدة، فيما اغتصب ذاته حقوق كل صحفي هرب من اعتقال مؤكد، وصمت عن كل انتهاك طال صحفيين سوريين منهماً من كان من كوادر الوطن ذاتها، ولم يكترث لكل التقارير الحقوقية والصحفية التي صدرت وطالبت سلطة الأسد الفار بوقف اعتقال الصحفيين السوريين.
يا استاذ …..
أنت كنت أهم الأذرع الإعلامية لنظام البراميل، اتقِ الله، أنت وتيارك ومن شابهكم، ببلد وشعبها، فقد لا تقوم لها قائمة بمثل هذه الشيطنة، والاغتيال والتحريض وهل يُقابل عفو السلطة الجديدة إلا بإحسان، فإن لم تكن قادراً، فالصمت فضيلة أيضاً.
وفيما تنتظر عودة صور عائلتك المستولى عليها” افتراضياً”، كأكبر مشكلة عندك، سأنتظر أنا شريكك في الوطن، ولم أحمل سلاحاً قط، سنوات قهر جديدة، ومعونات الإعمار التي لن تأتي لإعادة بيتي المُدمّر، وسأبحث فيما تبقى لي من حياة عن عظام أخي يوسف ورفاقه في المقابر الجماعية، سأنتظر عودة أهلي من المخيمات ودول اللجوء وهدم آخر خيمة في وطن حوّله حلفاؤك الأسدين لكتلة لهلب وجحيم، سأجهّز حقائب عودتي من المنافي، وقلبي ينفطر كيف أقسم عائلتي الصغيرة بين هناك ” المنفى” وهنا “الوطن”.
سنعود يا وضاح لنحتفل بالنصر الإلهي، والعدل ونقبّل جباه من حرّر الوطن ونغني ونصرخ، وتختلط ابتساماتنا بدموع الأمهات، ونحن معاً في ساحات الحرية تغني للغد والأمل.
ليتني يا” وضاح” اجد داعماً مالياً، لمقاضاتك في فرنسا، حيث نقيم كلانا الضحية والجلاد، فقط لنصدق جميعاً أن العدالة حق وواجب، وكفالة للمشترك وأمل للغد، وأن عهد الاغتيالات ولّى إلى غير رجعة.

محمد العويد – مراسل الوطن سابقاً في درعا

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock