حروب سورية… إصدار جديد عن وزارة الثقافة السورية، الهيئة السورية العامة للكتاب، وهو كتاب جديد للمؤلف والدبلوماسي الفرنسي ميشيل رامبو، وبترجمة الأستاذة الدكتورة لبانة مشوح، وهي المتعمقة في اللغتين العربية والفرنسية، عضو مجمع اللغة العربية بدمشق، وسبق أن قدّمت لميشيل رامبو نفسه كتاباً مهماً قبل سنوات، ويأتي هذا الكتاب في سلسلة تميط اللثام عن حقائق ما يجري على الأرض السورية من حرب مدمرة، ولعلّ علاقة رامبو بسورية هي التي جعلته يقدم دراسات مهمة ومعمقة وتشريحية في الحرب وأسبابها ونتائجها، ويؤسف أن العرب والسوريين لا يملكون هذه الرؤية العميقة..!
حرب أم حروب والأسباب
يلفت الانتباه هذا العنوان، وأول وهلة سألت نفسي عن سبب التسمية بالجمع، ولكن قراءة الكتاب بتمعن تظهر أن الكاتب امتلك رؤية عميقة لا يمتلكها المؤدلجون العرب والسياسيون العرب، فهم يتحدثون عن حرب آنية تجري على أرض سورية، ولكن معرفة رامبو لم تكن آنية، ومن هنا جاءت تسمية الكتاب (حروب) وتأتي أهمية اختيار الدكتورة مشوّح للكتاب الذي قامت بترجمته، وأزعم أن الكمّ المعرفي في الكتاب يجعل كثيرين يحجمون عن ترجمته! فهو بحاجة إلى معارف تاريخية وجغرافية وقومية ودينية، وهذا الجانب يعطي الكتاب أهمية خاصة، وليت هذا الكتاب ينشر على فصول في جميع وسائل التواصل والإعلام لما فيه من معلومات واستنتاجات وحقائق تعج بها الكتب التوثيقية!
الحرب حروب، والحرب ليست وليدة اللحظة، وليست شرارة 2011 هي المحرك الأساسي للحرب، وإنما كانت هذه الحرب واحدة من سلسلة حروب تشتعل على أرض سورية:
– حروب الاستعمار الحديث ورغبته في العودة للحالة الاستعمارية.
– حروب ضد مفهوم الدولة الوطنية صاحبة القرار الخاص، والاستقلالية (وهذا الجانب أغناه المؤلف بالحديث عن سورية ودينها وعلاقتها بالبنك الدولي، وقدّم آراء واستخلاصات قلّما نسمعها حتى ممن يدّعون المعرفة الاقتصادية).
– حروب الرجل المريض، وقد أعادنا المؤلف قرناً من الزمن إلى الدسائس لتقاسم تركة الرجل المريض «الدولة العثمانية»، وقد تناول بالشكل التفصيلي صحوة الرجل المريض المؤقتة ممثلة بأردوغان وتركيا، ومحاولة إعادة مجد الرجل المريض الذي دفن قبل قرن من الزمن.
– حروب قومية، وهنا قدم رامبو مفهوماً يلغي فكرة الفسيفساء السورية، ليدخل في عمق الحضارة السورية التي حوت واحتضنت وصهرت، فلم تكن التنويعات التي فيه حالة طارئة.
– حروب دينية وعقيدية من خلال استعراض الفكر الديني الإخواني وانطلاقته في مصر، إلى هجرة عدد كبير منهم إلى الدول العربية، وقد كان لسورية حصة في ذلك.. وقد أسعدني ذلك التحليل العميق للفكر الديني عند رامبو باستعراض الحركات الدينية، وأفكار حسن البنا، وأفكار سيد قطب التي بثّها في كتابه (معالم في الطريق) وأظن أن كثيرين لم يطلعوا على هذا الكتاب وعلى ما فيه، إضافة لما جاء في تفسير (الظلال) وكان لغياب هذه الكتب عن السوق الدور الأكبر في جهل منطلقات الفكر الإخواني والديني عموماً، والدكتورة لبانة مشوّح في ترجمتها، ونتيجة مباشرة لمعارفها نقلت هذه المعلومات، والكتب والأفكار بأسمائها الصحيحة وأفكارها التي تضمنتها، وتحت عنوان (قضية ملغومة- تكفيرية أم إرهاب) يستعرض المؤلف موثّقاً وبشكل علمي الحركة الدينية وصولاً إلى تطورها إلى حركة التكفير والهجرة التي أسست عام 1971 (ص233) ويبين الظروف والحاجات التي جعلت هذه الحركات شريكة للولايات المتحدة الأميركية من أفغانستان إلى العراق وسورية..
وهذا الفصل يأتي بعد حديث عن الواقع السوري، وليس اليوم، حتى لا يقال عن الشعاراتية، وإنما منذ بدايات الوجود السوري.. ولتنظر الصفحات (32- 234- 240- 270 وما بعدها 296- 321- 345) أشير إلى هذه الصفحات لغناها، ولعدم إمكانية أخذ مقبوسات من الكتاب، وخاصة أن الكتاب جاء بعبارة مكثفة لا يمكن اختصارها، ولم يترك الأحداث من مرج دابق إلى إدلب.. ولم يترك باحثاً لم يأخذ منه، خاصة باتريك سيل وحديثه عن الصراع على سورية، وأزعم أن كمّ المعارف التي جاءت في الكتاب تختصر عشرات الكتب، ولعلّ اضطلاع الدكتورة لبانة مشوح بنقل تفسير للقرآن الكريم من العربية إلى الفرنسية قبل زمن قد أسهم في جلاء كثير من المفهومات المتداولة، والتي يرددها باحثون آخرون من دون دراية.
أما المؤامرات والدسائس لتقاسيم تركة الرجل المريض، ودور المؤسسات اليهودية فقد أولاها عناية علمية، ويقف الكاتب بوعي عن فكرة المؤامرة بين رفضها وقبولها، ويعدّ أن رفض فكرة المؤامرة ضرب من الغباء، حيث يذكر هذه المؤامرات مما قبل قرن، ومن المؤامرات التي تجري على أرض لواقع، وحتى يكون علمياً، ولا يبدو مدافعاً عن سورية- مع حبه لسورية- فقد جاء على تفاصيل العراق وبإيجاز، ولأنه ليس عربياً وقف عند السلبيات والإيجابيات، ويحسن بنا أن نقرأ من دون أن نقيس حديثه عن الحضارة السورية، وعن السياسة السورية وعن الهدوء والثبات في مواجهة ما يجري ع
كتاب أنجز عن سورية وحروبها، وصولاً إلى هذه الحرب التي لن تكون خاتمة، بسبب وجود فكر المؤامرة، ووجود الأسباب التي تحرض على حروب دائمة. يختم الكاتب كتابه.. إذا ما أردنا أن نجنب كوكبنا التحول إلى مصحّ مجانين. قد يعيد «سلام على نمط صلح وستغاليا» تشكيل المجتمع الدولي على أسس جديدة، مستخلصاً العبر من حروب سورية، ومعطياً إياها معناها الحقيقي، ومكذباً شكسبير و«الرواية التي تعج بالضوضاء والغضب والتي يرويها البلهاء والتي فرضت علينا قسراً».
إنه كتاب علمي توثيقي محب ومتعاطف وعميق ينم عن معرفة متأصلة أنجزه رامبو في سلسلته عن سورية وحاضرها، نقلته إلى العربية بلغتها الراقية العالية الأستاذة الدكتور لبانة مشوح، يحسن بنا جميعاً أن نقرأه إن وافقناه أو خالفناه.