زيارة تاريخية في مخاض عالم جديد يرتسم
بقلم: محمد حسنين خدام
سفير الجمهورية العربية السورية في الصين
مثلت زيارة السيد رئيس الجمهورية والسيدة الأولى إلى جمهورية الصين الشعبية نقلة نوعية في العلاقات الثنائية بين الدولتين، وخاصة مع توقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية والاتفاقيات الأخرى التي ترسخ بشكل عملي سياسة التوجه شرقا التي أطلقها السيد الرئيس عندما زار الصين في العام 2004، والتي تبني على الروابط التاريخية بين سورية والدول الآسيوية اقتصاديا وثقافيا وتعزز التعارف بين الشعوب التي تراكمت عبر العصور. ليس لآسيا مخططات ضد منطقتنا، وليس لها اجندات شبيهة بتجربتنا مع الغرب عموما مازالت منطقتنا تئن من وقعها. فسورية هي التخوم الغربية لآسيا بينما تمثل الصين تخوم آسيا الشرقية، وستدمج الزيارة سورية في النهضة الآسيوية بكل بنودها. وقد رافق السيد الرئيس وفد رسمي ضم وزراء الخارجية والمغتربين والاقتصاد والتجارة الخارجية ورئاسة الجمهورية ونائب رئيس هيئة التخطيط والتعاون الدولي.
على الصعيد السياسي شهدت اللقاءات الرسمية مع السيد رئيس جمهورية الصين الشعبية شي جينبينغ، ورئيس مجلس الدولة لي تشيان ومع السيد جاو ليجي رئيس اللجنة الدائمة للمجلس الوطني لنواب الشعب تطابقا في الآراء والتصورات والفهم المشترك للمتغيرات الدولية غير المسبوقة، وكذلك في التطلعات نحو نظام عالمي أكثر عدلا وإنصافا يقوم على الاحترام المتبادل والعلاقات المتكافئة بما يخدم مصالح الجميع ويعود بالفائدة على كل الشعوب.
وقد أشاد السيد الرئيس بالمبادرات الصينية حول التنمية العالمية والأمن العالمي والحضارات العالمية وأكد أنها رغم انطلاقتها من الصين إلا أنها عالمية وتعكس تطلعات كل شعوب العالم التي تسعى للتنمية والسلام، وعلى هذه الأسس والأخلاق أيدت سورية كل هذه المبادرات خاصة وأنها تندرج ضمن رؤية مجتمع بشري يتقاسم مستقبلا مشتركا، ويواجه معا التحديات الحالية والمقبلة سواء ما تعلق منها بالتنمية والتقدم التكنولوجي والصحة وحل الأزمات بالطرق السلمية وغيرها، و لمواجهة العقلية التي تهيمن على بعض عواصم الغرب التي تفرض عقوبات أحادية غير شرعية، وتنهب خيرات الشعوب ومحاصيلها، وتقطع سلاسل التوريد وتبني تكتلات وعصابات من الدول التي تدور في فلكها بقصد ديمومة الهيمنة.
كما أكد سيادته على رغبة سورية بالتحول إلى اليوان الصيني كعملة للتبادل التجاري، وبما يحقق المنفعة للجانبين بدلا من هيمنة منظومة الدولار الذي تستخدمه واشنطن سلاحا لخنق اقتصادات الدول. خاصة وأن الصين الشريك التجاري الأكبر لسورية، وسيساعد اليوان في تيسير انخراط الشركات الصينية في عملية إعادة الاعمار، مع توسعة انخراط سورية في مبادرة الحزام والطريق.
وقد أشادت القيادة الصينية بصمود سورية على مدى أكثر من عقد من الزمن ضد التدخلات الغربية وأدواتها، وأكدت دعمها الكامل لسورية في المنابر الدولية وفي حربها على الارهاب وفي صون سيادتها واستقلالها الاستراتيجي، وفي تطلعاتها التنموية وفي انخراطها الكامل بمبادرة الحزام والطريق بما يعود بالفائدة على الطرفين، وبما يحول المزايا التي تتمتع بها سورية جغرافيا وبشريا إلى واقع ديناميكي، وزيادة الواردات الصينية من المنتجات السورية.
كما قام السيد الرئيس برفقة السيدة الأولى بزيارة قرية نموذجية صينية في ريف خانجو، كانت من أبرز التجارب الناجحة في مكافحة الفقر، وذلك بقصد الاستفادة من التجربة الصينية. وكما هو معلوم أعلنت الصين في شباط 2021 القضاء التام على الفقر المدقع وانتشلت أكثر من 800 مليون من من الفقر بتضافر جهود عدد من الوزارات كالزراعة والاسكان وعدد من المؤسسات الحكومية، وقد تم تعميم تجربة هذه القرية الناجحة في كل المقاطعات الصينية. وتركز الحكومة الصينية الآن على المحافظة على هذه الانجازات التي تحققت وعدم تأثرها بأية عوامل اقتصادية.
وحضر السيد الرئيس والسيدة الأولى حفل افتتاح الألعاب الآسيوية الـ 19 في مدينة خانجو مع بقية الزعماء الضيوف، وكان مؤثرا مدى التصفيق والترحيب الشعبي الصيني من الجمهور الذي كان حاضرا عندما دخلت البعثة الرياضية السورية إلى الملعب.
كما ألقت السيدة الأولى محاضرة في جامعة بكين للغات الأجنبية وسط حضور كبير من الأساتذة والطلاب والبعثات الدبلوماسية. وركزت المحاضرة على العلاقات بين الشعوب ودور اللغة في ذلك، وأكدت على موضوع الهوية وصونها في ظل التقدم الذي تشهده البشرية، وضرورة المحافظة على القيم المجتمعية والأخلاقية الانسانية لكل الحضارات رغم مواكبتها للتطورات العلمية. وأشادت بالعلاقات التاريخية التي ربطت سورية بالصين عبر التاريخ. وكان الاستقبال مهيبا فعلا حيث تدافع الطلاب لمصافحتها والتحدث معها بعد الانتهاء من المحاضرة، ورافقوها حتى باب السيارة.
وكان من أبرز فعاليات الزيارة في بكين اللقاء وقوفا الذي جمع السيد الرئيس والسيدة الأولى مع عدد من أبناء الجالية السورية المقيمة في الصين منذ فترة طويلة والتي ضمت سيدات ورجال أعمال وباحثين وطلاب. تحدث سيادته في بداية اللقاء عن الانتماء والهوية والارتباط بالوطن مهما بعدت المسافة والزمن، وأهمية الانخراط في المجتمع الصيني والتعلم في كل ما يفيد خاصة وأن للصين حضارة عريقة وصديقة عبر التاريخ، ونقل هذه المعارف إلى الوطن. وخلال حديثه مع كل فرد استمع سيادته لتجاربهم ومقترحاتهم وكيفية إفادة القطر من هذه النجاحات. وكلف السفارة بنقل هذه التجارب والاستمرار بالتواصل مع الأخوة في الجالية. وقد حضر الوفد الرسمي هذا الحفل والتقوا مع أفراد الجالية.
كان للزيارة عدد من الفعاليات الهامة التي تابعها المواطن الصيني بشغف، وما تزال مواقع التواصل الاجتماعي الصينية حتى الآن تبث مقاطع فيديو وصورا للسيد الرئيس والسيدة الأولى، وقد فاق عدد المشاهدات 1.6 مليار مشاهدة على منصة وايبو.
لم تشكل مسافة الجغرافيا انقطاعا بين البلدين، فقد أوفد أمبراطور أسرة هان الغربية الرحالة Zhang Qian منذ القرن الثاني قبل الميلاد، وكذلك أوفدت أسرة هان الشرقية Gan Ying كمبعوث لها إلى تدمر في القرن الأول الميلادي. وتحدث العديد من شعراء روما وأبرزهم الشاعر هوراس عن دور التاجر السوري بايصال الحرير الصيني إلى روما منذ القرن الأول قبل الميلاد، وتحتوي مدافن تدمر على أكثر من مائة قطعة من الحرير الصيني الدمقس والجين وتعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد، كما يقول المؤرخون الصينيون أن القمح وزراعته وصلهم من سورية وغرب آسيا قبل 4600 عام، وكانت الكنيسة السورية أول من وصل إلى تشانغ أن في القرن السادس الميلادي. وما هذا إلى غيض من فيض عن العلاقات التاريخية بين البلدين. فالبلدان عريقان في التاريخ وقد جمعت شعوبهما التجارة والتبادل الثقافي منذ الأزل.
وهكذا فإن الزيارة تشكل استمرارية للتاريخ الودي الذي جمع الحضارتين، كما يأتي توقيتها في منعطف كبير تشهده البشرية نحو تعددية قطبية تتيح لكل الدول المساهمة في رسم هذا المستقبل، ويشكل التشاور واستمرار التواصل على مستوى القيادات العليا أمرا هاما للغاية في تعزيز التعاضد والتعاون بين دول متشابهة في التفكير والمعاناة في ظل النظام الدولي الذي هيمن عليه الغرب لقرون ونهب ثروات الدول النامية، وأدخلها في دوامات حروب لاتنتهي. ولعل منطقة غرب آسيا أكثر مناطق العالم التي عانت وما زالت تعاني مه هذه الويلات. ولهذا تتطلع كل دول العالم إلى الدور الرائد للصين وسياساتها المبدئية التي تلقى ترحيبا متزايدا حول العالم في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وبشكل خاص في الشرق الأوسط.
ظلت الصين رائدة ومحرك الاقتصاد العالمي حتى العام 1850 حيث شنت عليها الدول الغربية حروب الأفيون، وفرضت عليها تنازلات في مكاو وهونغ كونغ وغيرها، كما تعرضت لنهب ثرواتها الثقافية والاقتصادية وأدخلتها في حقبة من الفقر المدقع. وبصمود وصلابة الشعب الصيني وحبه لبلاده استطاع أن يعيد إحياء أمجاد وطنه، وأن يحقق تفوقا علميا واقتصاديا في العديد من المجالات المتقدمة. وفي هذا عبر يمكن التأمل بها، والتمعن في تفاصيلها ، لأن إرادة الشعوب هي الأبقى من خلال ايمانها بذاتها وانتمائها، وهذا ما أثبته الشعب السوري خلال محنته الأخيرة.