عن الوهن الفرنسي والفينيق الإفريقي المتوثِّب.. هل تصنع الانقلابات ربيعَ إفريقيا المنتظر؟
فراس عزيز ديب
خلال كأسِ العالم الأخيرة وقبل النهائي الذي جمعَ فرنسا مع الأرجنتين، كتبَ أحد اللاعبين الأفارقة المعتزلين معلِّقاً على صورة المنتخب الفرنسي التي يغلب عليها أصحاب الجذور الإفريقية: «لولا إفريقيا وهؤلاء اللاعبون أين كانت فرنسا اليوم؟»، فردَّ عليهِ أحد المتابعين: «لولا فرنسا لرأيتَ هؤلاء اللاعبين في مخيماتِ اللجوء تأكلهم رمال الصحراء»، هو نوع من السجال الذي لا ينتهي لتحديدِ مَن صاحب الفضل على مَن، لكنهُ بالسياق ذاته سجال يخفي الكثير من العنصرية التي يحملها كلا الطرفين، الطرف الذي رأى بالصورة مجردَ لونِ بشرة والطرف الذي لم يفكِّر بالبحث عن السبب الحقيقي لمعاناةِ أبناء مخيمات اللجوء ليسَ في إفريقيا فحسب لكن في كل المناطق الملتهبة، من الذي يدير الصراع؟!
تبدو هذه المقاربة للسجالات العنصرية ضرورية اليوم لنجيب على هذا السؤال: ماذا يجري في إفريقيا؟
سؤال بدأ اليوم يطفو على السطح بعدَ عدةِ انقلاباتٍ ضربت دولاً كانت ولا تزال تُعتبر حدائقَ متقدمة لدولةٍ مثل فرنسا، أحد المحللين السياسيين قال: «سنبكي على ضياعِ إفريقيا كما بكى العرب على ضياع الأندلس»! مقاربة تدل ربما على ضحالةِ المرجعية الفكرية التي يتحدث منها هذا المحلل، من قال لهُ إن العرب جميعاً يبكونَ ضياع الأندلس، وهل كانت الأندلس أرضاً عربية؟ ربما أن وجود العرب في الأندلس والذي كان بداية لنشوء الإسلام السياسي، لا يفرِق شيئاً عن الوجود الفرنسي في إفريقيا، كلاهما في المفهوم الإنساني والأخلاقي احتلال مع فارقٍ جوهري، أن العرب في الأندلس تركوا الكثير من الشواهد التي تدل على فعلٍ حضاري متتابع مازالت إسبانيا تنهل من خيراتها السياحية حتى يومنا هذا كقصرِ الحمراء والقنطرة، لكن ماذا قدمَت فرنسا لإفريقيا غير الفَرْنسة اللغوية ونهب للخيرات؟
بمعنى آخر لم تقدِّم فرنسا إلا ما يمكننا تسميته بالغطاء السياسي والأمني للديكتاتوريات التي تدور في فلكها، والتي كانت تضمن لها استمرارية استثمارها للثرواتِ الباطنية وسرقتها عبر شبكات فسادٍ قلَّ ما يُعلن عن اكتشافها، هذا الكلام ليسَ مجرد حشو بل هو كلام وثقته الأحداث التاريخية في الدول الإفريقية الفاعلة والتي امتلكت حُكاماً يبحثون عن المصلحة الفرنسية أكثر من البحثِ عن مصالحِ دولهم، هنا يمكننا مثلاً تجنباً للإطالة أو الغوص بتجارب كل دولة أن نأخذَ أحد أهم الأمثلة عن هذا الفساد والمتجسد بصعود شركةِ «توتال» الفرنسية للنفط على أنقاضِ شركةِ «إلف» التي كانت مملوكة للدولة والتي هزتها أكبرَ عمليةِ فسادٍ في تاريخ الشركات المحتكرة لإنتاج النفط بسرقةِ مليارات الملايين من العائدات في الدول الإفريقية، ليتبين معها أن ما يتم سرقتهُ من أموال هذهِ الشركة كان يذهب لسياسيين أفارقة محليين وفرنسيين، بعضهم من الفرنسيين، كان يمول حملاته الانتخابية من هذه الأموال، فضيحة هزت يومها عرشَ فرنسا المالي والسياسي أدت لاعتقالِ عددٍ كبير من المتورطين بينهم رجال أعمال ومسؤولين، نتحدث هنا عن قضية تم اكتشافها لكن ما عدد القضايا التي لم يتم اكتشافها أو نامت تقاريرها في أدراج الفساد؟ أليسَ هذا الفساد هو الذي جلب الفقر والتشرد للمواطن الإفريقي المحروم من ثرواته؟!
لكن في سياقٍ آخر يبدو البعض وكأنهُ يُبالغ في توصيفِ ما يجري وكأنَّ القارة الإفريقية كانت ساحةَ أمانٍ واستقرار وفجأة بدأت تعيش هذا الخلل السياسي، ماذا تعني ستةَ انقلاباتٍ خلال عدةِ أسابيع؟ ربما أن الجديد الوحيد فيما يتعلق بالقارة الإفريقية أن الانقلابات والاضطرابات ضربت شمالها كما وسطها وجنوبها.
بواقعيةٍ مطلقة تبدو هذه المقاربة صادقة نوعاً ما فالدول الإفريقية بشكلٍ عام معتادة على هذا النوع من عدم الثبات السياسي، حيث إنها القارة الأكثر تعرضاً للانقلابات بين قارات العالم أجمع، بل هناك من يذهب أبعدَ من ذلك عندما يتحدث باستغرابٍ عن محاولةِ البعض التشفي بفرنسا تحديداً بعدَ كل انقلاب وكأنَّ فرنسا هي المستهدفة لدرجةٍ توحي لك بأن فرنسا تدير القارة الإفريقية كما تشاء، والواقع شيء آخر مختلف تماماً، إذ إن فرنسا نفسها باتت تعاني من الوهن والضعف الذي يجعلها غير قادرةٍ على ممارسةِ أي ضغوطات بما فيها تحمل تكلفةَ التدخلات العسكرية لحمايةِ الأنظمة الموالية، حيث إن مشاركتها في معارك الساحل في مالي جرى تغطية جزء من نفقاتها تحت بند «محاربة الإرهاب»، هنا الأمر مختلف، لا يوجد أحد من الجنرالات المنقلبة خرجَ ليعلن بلاده إمارة إسلامية، إن هذا الضعف الفرنسي مرَّ بعدةِ مراحلٍ حتى وصلَ مرحلةَ التشتت السياسي كأن يتحدث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نهايةَ شباط الماضي عما سماهُ تغيير اللهجة في التعاطي مع الدول الإفريقية بما فيها لهجة الاستعلاء، لترد عليه «الليبراسيون» بمانشيت عريض: خطاب جديد بحمضٍ نووي قديم!
اللافت يومها أن الكثير من الكُتاب المهنيين حذروا ماكرون من أن دول وسط إفريقيا الغنية بالثروات والمحكومة من قبل موالين لفرنسا، تُعاني الكثير من الاضطرابات لدرجةٍ قد لا تستطيع فرنسا يوماً حماية حلفائها وهو ما بدأ فعلياً يتجسد بعدَ أشهر قليلة، وأهم من يظن بأن سبب تقاعس فرنسا عن التدخل هو عدم إدراكِها لما يجري لكنها ببساطة القدرات المترهلة لدولةٍ باتت محكومة من مجردِ أطفال!
ترهل القدرات الفرنسية بما فيها فشلها في مالي مثلاً، ليس سببهُ الترهل السياسي لمكانة فرنسا حول العالم فحسب، بل يعود أيضاً لظهور منافسين جدد في القارة، إن كان منافساً على آليات الاستثمار والعوائد، وهنا نتحدث عن الجانب الصيني، أو منافساً في القوة العسكرية وبناء النفوذ عبر استمالة الجنرالات، وهنا نتحدث عن النفوذ الروسي، كلا المنافسَين شكلا نقطة التقاء عند الترهل الفرنسي فبدأت الأصوات تعلو للخروج من العباءةِ الفرنسية، فهل هذا ممكن؟
كانَ يُنتظر من انتصار الرئيس الجنوب إفريقي الراحل الكبير نيلسون مانديلا على سجانيهِ أن يكونَ شرارة انطلاقٍ لحركاتِ تحررٍ أخرى تكسر قيدَ ما يعوق النهوض بدولها، إن كان نظام فصلٍ عنصري أو جنرالات تتبع لدولٍ خارج القارة تدير مصالحها، حتى الآن نجحت الكثير من الدول ببلورةِ هذهِ التجربة فاكتسبت الكثير من التطور والاستقلالية كرواندا مثلاً التي كنا قبل سنواتٍ نتحدث عن الحرب الأهلية فيها لنصل اليوم إلى مكانٍ تسيطر فيه دعاية وزارة السياحة الرواندية لزيارة رواندا على أهم محافل الرياضة العالمية، التجربة الرواندية انطلقت من داخل رواندا لم تحاول أبداً الالتحاق بدولةٍ عظمى لتأخذ بيدِها، ما أكسب التجربة الكثير من النجاح والاستقلالية، على هذا الأساس نعم من الممكن إن امتلكَ الجنرالات «المتمردون» على الغطرسة الفرنسية في إفريقيا أن يشكلوا تجاربهم الخاصة التي تنهض بشعوبهم وبدولهم، ولا يتركوا من الأثر الفرنسي سوى اللغة على الطريقة البرازيلية مع الاحتلال البرتغالي، لكن بالسياق ذاته لا يمكن لهم تقديم ما يجري من انتفاضٍ على الإرث الفرنسي على أنه التحاق بمشروع على حساب مشروعٍ آخر بمعزل عن رأينا بكلا المشروعين، لكنه دخول في صراعاتٍ أكبر بكثير من هذهِ الدول، مع الأخذ بعين الاعتبار قدرةِ الحلفاء الجدد إن جازَ التعبير، على معاملةِ الدول الإفريقية بطريقةٍ مماثلة للمعاملةِ الفرنسية تحديداً بقضايا اللجوء والعمل والقبول الدراسي، وهي بالمطلق دول منغلقة على هذه الاحتياجات وقد لا تبدو مستعدة لملء الفراغ الفرنسي على المدى القصير فماذا ينتظرنا؟
ببساطة وقد لا يعجب هذا الكلام بعض الرؤوس الحامية، فإن ما يجري في إفريقيا حالياً لا يرقى لمستوى الحديث عن تبدلٍ في خريطة النفوذ وما شابه، ما يجري حتى الآن هو استثمار في الضعف الفرنسي لكننا بانتظار الاستثمار بما تتمتع بهِ الدول التي ضربتها الانقلابات من مكامن قوة، هنا فقط يمكننا الحديث عن تبدلٍ في الخريطة وعن نهوض دولٍ من تحتِ أنقاض الوصاية الفرنسية، فإفريقيا ليست مجردَ أدغالٍ أو صحراء، إفريقيا أولاً وأخيراً هي الإنسان بأحد أهم تجليات تمسكه بالطبيعة والأرض والقدرة على النهوض عبرهما، عدا عن ذلك فإن كل ما يجري وسيجري لا يعدو لكونه سجالاً على لون بشرة هذا اللاعب ومصيره فيما لو لم يكن لاعباً.. وأتمنى أن يكون استقرائي خاطئاً.