فلسطين بين قرارات محكمة العدل والجنائية الدولية.. شيطان في التفاصيل أم شياطين في التفصيل؟!
| فراس عزيز ديب
في شرقنا البائس، غالباً ما نمتلك الكثير من القوانين الجيدة واللازمة فعلياً لبناء مجتمعٍ يلتزم بالضوابط القانونية والأخلاقية قبل غيرها، لكن العبرة دائماً ما تكون، في تطبيق هذهِ القوانين، بحيث يبدأ دهاة الاستعراض بالالتفاف على القوانين بالبحثِ عن الثغرات التي تعفيهم من تطبيقها قبل حتى البحث في مزايا تطبيقها، ربما لأن العرف بات هو الطاغي، لكن لو وسعنا الدائرة قليلاً لوجدنا على المستوى الدولي أن هناك الكثير من القوانين والقرارات وحتى الاتفاقيات لو أنها طُبِّقَت لعاشَ العالم أجمع بهدوءٍ وسكينة، لكن المشكلة تكمن بأولئكَ الذين يظنون أنفسهم فوق القانون فما الجديد؟
كما كان متوقعاً فقد أصدرت محكمة العدل الدولية في لاهاي قراراً يُطالب الكيان الصهيوني بوقف العدوان المستمر على رفح وضمان سلامة المعابر لتحقيق وصول آمن للمساعداتِ الإنسانية وصولاً لإلزام الكيان بتقديمِ تقريرٍ للمحكمة خلال شهر من تاريخِ صدور هذا القرار عن الإجراءات المتخذة لضمان تنفيذ القرار.
في الحقيقة تبدو قرارات هذهِ المحكمة بصورتها الحالية وبصيغتها الحاسمة مثيرة للاهتمام منذ صدورها، فالعقل المعادي لجرائم هذا الكيان لم يعتد بعد وجوده في قفص الاتهام وخانة الإلزام، لكن وكما اعتدنا فإن الموضوعية في التعاطي مع أحداث كهذه مطلوبة على الأقل من زاوية أن الشيطان يكمن في التفاصيل، فما بالك إن كنا نتحدث عن شياطين في كل تفصيل؟
أولاً: وماذا عن مذكرات التوقيف؟
عند النظر بقرارِ محكمة العدل الدولية الذي يطالب الكيان بوقف العدوان على رفح، فإننا لا يمكن أبداً أن نفصله عن طلب المدَّعي العام للمحكمةِ الجنائية الدولية كريم خان إصدار مذكرة اعتقالٍ بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعهِ يوآف غالانت الذي سبق هذا القرار بأيام قليلة، ربما قد نتفق بأن طلب المدعي العام جعلَ حلفاء الكيان الصهيوني في حالةِ حرجٍ كبرى على الأقل مع ثبوت ارتكابات ترتقي لمستوى جرائم الحرب، وكبريات الصحف الفرنسية تحدثت عن ما سمته «المصداقية الأوروبية على المحك» تحديداً أن الدعم الأعمى للكيان عرَّى ما تبقى من تلك المصداقية التي أدت إلى ما أدت إليه من انقسامٍ حصل في آراءِ الدول الأوروبية التي هي بمجملها داعم للكيان، ففرنسا مثلاً طالبت بالحفاظ على استقلالية قرارات المحكمة الدولية وهي ما يمكن اعتباره رداً مباشراً على الكيان الصهيوني الذي طالب مجرموه الدول الأوروبية بإظهار الدعم للكيان، كذلك الأمر فإسبانيا التي فيما يبدو وكأن حكومتها تذهب أبعدَ من ذلك في الحديث عن «عودة فلسطين للفلسطينيين» وصولاً لاعترافها من جانبٍ واحد بدولةٍ فلسطينية ما استدعى ردَّاً صهيونياً بإغلاق القنصلية الإسبانية في القدس، لكن على المقلب الآخر هناك دولاً كبريطانيا مثلاً هاجمت قرارات المدعي العام واتهمتها بالتحيز للإرهاب، هذا الانقسام الحاصل ظاهره فقط عند المعسكر الآخر لكن الحقيقة ليست كذلك لأن قرارات المدعي العام حملت أيضاً قادة من حماس مسؤولية حدوث مجازر واحتجاز «مدنيين أبرياء» دفعت كثيرين ممن يقفون مع القضية الفلسطينية في السر والعلن للهجومِ على هذه المساواة بين الضحية والجلاد، هذه المقاربة يمكن تطبيقها كذلك الأمر على قرارات محكمة العدل الدولية المتعلقة بالهجوم على رفح بمعنى آخر: فكرة «العدالة الدولية» إن كان لها وجود أساساً، هي ليست فكرة انتقائية آخذ منها ما يناسب تصرفاتي وأُهاجم ما يتعارض منها مع طموحاتي، لذلك قلنا في الأساس إن التعويل على العدالة الدولية هو تعويل فاشل ليسَ من منطلق عدم الإيمان بالفكرة لكن لوجود موانع قانونية لا تناسب أصحاب الشعارات الرنانة، لا يمكن لنا التغني بقرار محكمة العدل الدولية والهجوم على قرار المحكمة الجنائية إما أن نقبل بهما أو نرفضهما والمثال هنا بسيط: المؤسسات الدولية تعترف بوجود دولة إسرائيل فكيف تنتظر منها قرارات تشطب وجود دولة إسرائيل؟
ثانياً: العدوان على غزة أم العدوان على رفح؟
خلالَ التعاطي الإعلامي بعد صدور قرار المحكمة الدولية وقعَ الكثير أصحاب الاختصاص بمغالطةٍ جغرافية عندما تعاطوا مع القرار لوقف الحرب على غزة، لأن قرار المحكمة كما هو واضح في بنوده تعاطى فقط مع الهجوم الإسرائيلي على رفح حيث طالب القرار الكيان الصهيوني بوقف عملياتهِ هناك فوراً، والعمل على فتح المعابر لضمان وصول المساعدات الإنسانية، وكذلك الأمر وصول لجنة للتحقيق بالمجازر المرتكبة هناك، المشكلة مع هذا القرار أنهُ لم يفسر تغييب كلمة القطاع بالكامل لأن الهجوم على رفح كان بمنزلة «خواتيم» للعمليات العسكرية التي جعلت القطاع أثراً بعدَ عين، وإن كان القرار قلق على مصير المدنيين في القطاع فعلى أصحاب القرار التذكر بأن هؤلاء المدنيين أساساً هربوا من جرائم الاحتلال على طول القطاع، حتى إن المجازر التي تريد المحكمة التحقيق بها وإدانة القائمين عليها التي ارتكبت في رفح قد لا تساوي عشرة بالمئة من المجازر التي تم ارتكابها على طول القطاع والتي شملت كل شيء بما في ذلك مستودعات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «أونروا» والمشافي والمراكز الصحية التي تمنع القوانين والأعراف الدولية التعرض لها خلال الأعمال العسكرية، فهل كان هذا التغييب بريئاً؟
ربما هناك وجهتا نظر، الأولى تقول إن قضاة محكمة العدل الدولية حاولوا السير بهدوء لضمان خروج القرار بالحد الأدنى من الإدانة لإسرائيل نظراً لما تتعرض له المحكمة وقضاتها من ضغوطات لا يجب تجاهلها، لكن ببساطة هناك وجهة نظر ثانية تقول إن الأحكام هي من جنس الفعل فعندما يكون هناك نية مبيتة لتبرئة القاتل من سلسلةِ جرائم وحصر كل جرائمهِ في اتجاهٍ واحد، فالشعور بالقلق أساساً من قرار كهذا يبدو مبرراً وانعدام الثقة يبدو منطقياً من دون أن ننسى عشرات القرارات الدولية بما فيها الصادرة عن مجلس الأمن الدولي ولم تنفذ منها إسرائيل أي قرار!
ثالثاً: الفيتو الأميركي
مما لا شك فيه أن الولايات المتحدة الأميركية لم تترك فرصة للهجوم على كل ما يقلق الكيان الصهيوني بما فيها فكرة العدالة الدولية، فالولايات المتحدة هي من عرقل أكثر من مشروع قرارٍ لوقف الحرب على غزة، أمام العالم أجمع ليس في السر ولا حتى من تحت الطاولة، قبل أن تُتحفنا محكمة العدل الدولية بمصطلح «وقف الحرب على رفح»، في السياق ذاته هي هاجمت طلبات المدعي العام بتوقيف رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت، واعتبرت طلبات التوقيف هذه مرفوضة لأنها تساوي بين «أبناء الحياة والإنسانية» بثلة من الإرهابيين كما وصفهم مسؤول أميركي، اليوم لا يبدو أن الأمر سيختلف بل على العكس قد تبدو قرارات محكمة العدل الدولية هي أضعف ما واجهته الولايات المتحدة الأميركية خلال رحلتها في الدفاع عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي، تحديداً أن تفعيل قرارات المحكمة بحاجة إلى قرار من مجلس الأمن حيث سيكون الفيتو الأميركي البريطاني له بالمرصاد، لنعود إلى المربع الأول الذي سيتخلله ضغط إعلامي كبير يبرئ ساحة الكيان ومجرميه ويشدد على ضرورة تسليم «إرهابيي حماس» أنفسهم للعدالة الدولية، فماذا ينتظرنا؟
لعل أقوى رد على قراراتِ محكمة العدل الدولية جاء على لسان ما يسمى وزير الأمن القومي الإرهابي المتطرف إيتمار بن غفير الذي وكما جرت العادة وصف المحكمة بـ«اللاسامية» باعتبارها التهمة الجاهزة لكل من ينتقد إسرائيل والذي هدد بأن الرد على هذه المقررات سيكون باحتلال رفح وهو ما يسير حالياً على قدمٍ وساق، لأنه للأسف جاد في هذا التهديد ولأنه أيضاً أكثر من يعي أن محاكم كهذه هي مجرد وسيلة لتقطيع الوقت على طريقة ما أشيع ويشاع عن الخلاف بين الولايات المتحدة وإسرائيل والذي مازال البعض ينتظر نتائجه منذ أكثر من 230 يوماً لبدء العدوان على غزة وما النتيجة؟
سنعود للإجابة عن هذا السؤال عندما تصبح الأيام 260 يوماً أي بعد مرور شهر وهو المهلة التي منحتها المحكمة للكيان للامتثال للقرارات الدولية لنرى أن المجتمع الدولي ابتكر بدعة جديدة لإطالة زمن الحرب لا أكثر.
وحدهم من يدفعون الثمن هم الصادقون في هذا الشرق البائس.. على أمل أن أكون مخطئاً.
كاتب سوري مقيم في فرنسا