لولا دي سيلفا والقيادة بالقدوة
لا شكّ أن متابعة زيارة الرئيس البرازيلي لولا دي سيلفا إلى الصين ومضمون وبرنامج هذه الزيارة بالإضافة إلى معاني ما تعرّض له هذا الرئيس من ظلم وصل إلى حدّ السجن، توحي برسائل هامة ومفيدة وذات دلالات مستقبلية من الجدير جداً التوقف عندها وفهم أبعادها بعيداً عن حملات التضليل التي يقودها الإعلام الغربي في المفردة والسردية في تناول هذه المواضيع ذاتها.
فالرئيس لولا دي سيلفا الذي قاد بلاده من عام 2003 – 2010 هو رئيس عمّالي أخرج بلاده خلال ولايته من المديونية إلى الوفرة، وقاد تموضعها حيث تستحق في قلب الأحداث العالمية، وكان أحد أهم المؤسّسين لمجموعة «بريكس» التي تكتسب أهمية على الساحتين الاقتصادية والسياسية والدولية والتي تضم حالياً البرازيل والصين والهند وروسيا وجنوب إفريقيا.
ولعلّ أولى الدلالات هي أن الرئيس لولا بدأ بزيارته من شنغهاي حيث حضر تنصيب الرئيسة السابقة للبرازيل ديلما روسيف (2011-2016) رئيسة لبنك مجموعة البريكس، هذا البنك الذي يعمل بجدية لاستبدال الدولار بالعملات المحلية وخاصة باليوان، وقد صرح البنك المركزي البرازيلي أن اليوان أصبح ثاني عملة احتياطية للنقد في البرازيل مزيحاً اليورو من هذه المكانة.
وقد رافق الرئيس البرازيلي في هذه الزيارة مئتا شخصية اقتصادية من قادة الأعمال في البرازيل ووقّعوا أكثر من عشرين اتفاقية حيث إن التبادل التجاري بين البرازيل والصين يبلغ عشرات المليارات ومن المتوقع أن بنك مجموعة البريكس سيخطو خطوات كبيرة في السنوات القادمة لإخراج الدولار من التبادل بين الصين والبرازيل وروسيا، ومستقبلاً من التبادل بين دول مجموعة البريكس.
هذا في الشقّ الاقتصادي ولكن وفي الشقّ السياسي فإن لولا دي سيلفا يُعتبر أيقونة النضال ضد الإمبريالية والقائد المحترم في تعزيز دور البرازيل على الساحتين اللاتينية والدولية وأيضاً الناشط من أجل علاقات دولية أكثر ديمقراطية، وها هو اليوم يتحدث عن عودة بلاده إلى دورها العالمي بعد غياب «يتعذّر تفسيره» كما قال لولا.
يتابع لولا: «إن سكان البرازيل يفوق سكان أعضاء مجلس الأمن روسيا وبريطانيا وفرنسا مجتمعة وهذا يعني أنها تستحق مقعداً في مجلس الأمن»، ويؤكد مستشار لولا ووزير الخارجية السابق سيلسو أموريوم: «نرغب بطريقة حكم دولية لا تشبه مجلس الأمن الحالي». وقد أطلقت البرازيل دعوات عدّة لإصلاح النظام العالمي القائم في الأمم المتحدة من أجل علاقات دولية أكثر عدالة وديمقراطية، وحضر لولا الاجتماع الأول لدول البريكس في عام 2009 في مجموعة واعدة أن تكون اقتصاداتها أهم من مجموعة السبع الحالية.
وفي القراءة لما يجري اليوم واستعادة محاولات الولايات المتحدة المستميتة للقضاء على مستقبل لولا السياسي وإيداعه السجن بتهم برهنت أن لا أساس لها من الصحة ولكن الهدف الأساس كان إبعاده عن السياسة التي انتهجها في بلده المهم جداً في أميركا اللاتينية وعلى الساحة الدولية والداعية أساساً إلى فصل التعاون الاقتصادي عن التدخل في أنظمة الحكم في العالم حيث إن لولا وحكومته يؤمنان بالحوار والقيادة من خلال «القدوة» كما قال مستشاره أموريم، فحين سُئل أموريم ما إذا كانت البرازيل بدورها القوي الجديد تحت حكم لولا ستلعب دوراً في فرض أساليب العمل الديمقراطية أجاب أموريم بغاية البلاغة: «فرض» كلمة سيئة.
وإذا ما أخذنا تجربة لولا مع الولايات المتحدة والتي عمدت إلى محاربة أنموذجه بشتّى الوسائل ودعمت جايير بولسونارو الذي كان ينفذ أجندة الولايات المتحدة بغض النظر عن مصلحة بلاده وأحياناً بما يتناقض مع تجربة بلاده، نوقن أن الولايات المتحدة تقف عاجزة حين تتم مواجهتها بالإرادة الصلبة والعمل الدؤوب والحكمة من أجل مصلحة البلاد ومصلحة الإنسان في هذا العالم، ومن هذا المنظور وفي هذا السياق تزامنت زيارة دي سيلفا الهامة للصين مع زيارة قائد الجهاد الإسلامي زياد النخالة إلى العراق، وتزامن الحدثين مع تضحيات أهلنا في فلسطين ضد الطغيان الصهيوني العنصري الأعمى.
المقارنة بين زيارة نخالة ولولا تنبع من واقع أن الولايات المتحدة قد عملت جاهدة ومنذ احتلالها للعراق لفصل عُرى الشعب العراقي عن القضية الفلسطينية وعن سورية واخترعت مجموعات في المنطقة ضمّت العراق إليها بأمل تطويع العراق في مسار التطبيع مع الكيان الصهيوني وأطاحت برئيس الوزراء عادل عبد المهدي نتيجة جهده لتأسيس علاقات للعراق مع سورية والصين، ولكن ما نراه اليوم من الدعم العراقي لسورية بعد الزلزال ورغم كل تهديدات الولايات المتحدة، ومن دعم الشعب العراقي للشعب الفلسطيني وزيارة زياد نخالة للعراق في هذه الظروف وفي يوم القدس العالمي، لهو دليل كبير على انكسار واندحار مخططاتهم في أكثر من مكان رغم أن إعلامهم البعيد جداً عن أي حرية في تناول القضايا ما زال يستخدم مفرداته وسرديّاته ذاتها إلى أن يأتي يوم يجدون فيه أن هذه السرديات قد فقدت أهميتها لدى القرّاء والمشاهدين وأنها ألغت ذاتها بعد أن فقدت مصداقيتها بالكامل.
حين عينت الولايات المتحدة الكيان الصهيوني في «القيادة المركزية للولايات المتحدة – سنتكوم»، ظهرت المقالات والتحليلات التي تحدثت عن «ناتو عربي» يتشكل بقيادة الكيان الصهيوني وعضوية دول عربية معينة وعقدت الاجتماعات في أكثر من مكان وتمّ الترويج له وكأنه أصبح واقعاً، والسؤال اليوم هو أين هو هذا «الناتو العربي»؟ وأين هو هذا الكيان الذي سوف يحكم هذا الناتو ويحكم المنطقة من خلاله؟ وحين تم التوقيع على اتفاقات أبراهام المشؤومة احتفت الصحافة الأميركية بعصر جديد وانتهاء القضية الفلسطينية وأن الكيان الصهيوني ليس بحاجة إلى مرجعية الشعب العربي فهو سعيد بتعامله مع بعض الحكام ويدع الشعب العربي وشأنه، وها نحن نسأل اليوم من الذي يغيّر مسار التاريخ من اليمن إلى سورية وفلسطين أليس هو الشعب العربي المؤمن بقضاياه وكرامته والمستعد للتضحية من أجل إعلاء كلمة الحقوق الثابتة والتي يرفض التخلي عنها بأي ثمن؟ وأين هي اتفاقات أبراهام التي هلّلوا لها بطريقة وكأن مجرد التوقيع عليها قد حولها إلى واقع يجب التعامل معه؟ كما أن الاتفاق الإيراني – السعودي الذي دعمته الصين يعتبر فشلاً ذريعاً لسياسة الولايات المتحدة والكيان الصهيوني اللذين ما فتئا يدبّان الفرقة الدينية والمذهبية والطائفية بين أبناء المنطقة لتفتيت جهودهم وإضعافهم والسيطرة على قراراتهم ومقدراتهم.
كل هذه الأمثلة وكثير غيرها لا مجال لذكرها هنا، يبرهن بما لا يقبل الشك أن التاريخ يصنعه القادة والشعوب المؤمنة بحقوقها وقضاياها ومصيرها وقدرتها على كتابة تاريخها بيدها بغض النظر عمّا يدّعيه ويروّج له الأعداء من أكاذيب وأوهام وأساطير قوة لا تقهر، وفي هذا الإطار أرى زيارة الرئيس لولا إلى الصين وكل الإنجازات الاقتصادية والسياسية لهذه الزيارة تشدّ من أزر المقاومين الحالمين بتغيير العالم إلى الأفضل حتى وإن تعرّضوا للظلم والتهميش خلال مرحلة ما يجب ألا يهتز اليقين أنهم هم صانعوا التاريخ والمستقبل وأن السرديات الغربية والادعاءات الكاذبة والأوهام المرسومة على الرمال لن تصمد أمام أول هبّة رياح تعتريها.