“مداد”: إشكاليّةً المُقارَبةِ الرّاهِنة لإعادة الإعمار أنها تضع العَرَبة أمام الحِصان
بيّن تقرير صادر عن مركز دمشق للأبحاث والدراسات «مداد» حول إعادة الإعمار أنه ليس كلُّ الإعمار إعماراً بالمعنى الإيجابيّ، ولا كلُّ الهدم دماراً، ولا كلُّ الدمار هدّاماً وسلبيّاً، بل إن بعضَه إيجابيٌّ وبنّاء أكثر من كثيرٍ من البِناء.
التقرير الذي حمل توقيع الدكتور سنان حسن بعنوان «في إعادة الإعمار بين تفكيك وإعادة تشبيك مداميك الجدار»؛ اعتبر أن الأكثر إشكاليّةً في المُقارَبةِ الرّاهِنة لموضوعِ «إعادة الإعمارِ»، أنها تضعُ العَرَبة أمام الحِصان، إذ إنها تَقفِزُ، منهجيّاً، فَوقَ استحقاقاتٍ تمهيديّة وتأسيسيّةٍ حاسِمة، ولا تتوقفُ على المُتعلِّقات المهمة خارجَ إطار المِعمار (كالظُّروفِ الأمنية المُناسبة، والإمكاناتِ الاقتصاديّة الّلازِمة، وتأهيلِ البيئةِ ما تحت وفوق العُمرانيّة، والإنسانية منها بالذات، وتلك اللازمةِ لإعادة الإعمارِ في البَشَر قبلَ الحَجَرِ، فضلاً عن التأسيس الفكريِّ والتنظيريّ المتعلِّق بمراجعةٍ مفاهيميّة لثلاثيّة «الهُويّة» و«الحداثة» و«التراث»)، وإنّما لما يَصبُّ في الصُلبِ والصميم من استحقاقاتٍ واجِبةٍ قبلَ الشُّروعِ بالتصميم، وبِفعلِ البِناء الفِعليّ، بل حتى قبلَ الحَديثِ عنه.
واعتبر التقرير أن أول ما يجب إعادة بِنائِهِ وإعمارِهِ، هو قِطاعُ البِناءِ والإعمار بحدِّ ذاتِه. ليسَ لأنه تهدَّمَ بِفعلِ الحَرب، وإنَّما لأنّه، أولاً وأصلاً، أولى من غيره بالإصلاح والتحديثِ والتطوير، ولأنّهُ لم يُبنَ، في الأساس، على أُسُسٍ رؤيويةٍ سليمة.
وأكد التقرير ضرورة إعادة النظر في قِطاعُ التعليمِ المعماري جَذرياً، في كُلِّ جوانبِ، وأوجُهِ، ومُندرجاتِ، وبأدواتِ العمليّة التعليميّة المِعماريّة المُتراجعة محليّاً بقدْرٍ غير مناسب، وهو ما يستحِقُّ مبحثاً مستقلّاً مُستَفيضاً.
إضافة إلى ضرورة رفع مستوى الثقافةِ والذائِقةِ العامّة لقِطاع الثَّقافةِ والإعلام (المعماري) عن طريق أداء وسائِلِ الإعلام لواجباتها في هذا الإطار، واستعادةِ وِزارةِ الثّقافة لدَورها في فنِّ المِعمار، بعدما تخلَّت عنهُ لمصلحة المَرجعيّات الخِدميّة والإداريّة والتِقنيّة، والنِقابيّة.
مع ضرورة إجراء معالجة قِطاعُ التَّشريع، والإدارة، والتنظيم (المعماري)، ولابد من جَذريّة مُؤسّساتيةّ للعمليّة المِعماريّة، فلا تُصادَرُ استقلاليّتُها أو تُلحَق بالحُقول الهندسيّة. كما ينبغي أن يعادَ النَّظرُ في التَّشريعات والآليّات الإجرائيّة الحاكِمة والناظمة للمُمارسة المِهنيّة (نظام المُزاولة، أسُسِ التخطيط، ضابِطة البِناء، مُصادرةِ العمل العام، المُسابقات المعماريّة.
مقاربة
وتساءل التقرير كيف، ومتى، تتمُّ مقاربةِ موضوعِ الإعمار بشكلٍ عملانيّ، تطبيقيّ، وتنفيذيّ؟ وهل يتم العمل على مشاريع عدّة في آن، أم على واحدٍ محدَّد، كأنموذج اختباريّ ريادي، لا مشروع مفرَداً يختزلُ كلَّ مشروعِ الإعمار الوطنيِّ الواعد والموعود، ويستنزفُ كلَّ موارده العامّةِ والخاصّة، ويستأثرُ، دون سواه، بالرِّعاية والاهتمامْ والإعلام؟ وأنه لا يُفترضُ أن يحوزَ على المشروعيّة أمام علاماتِ الاستفهامِ (المشروع)، فلا يتحوَّلُ مشروعُ الإعمار، برمَّتهِ، إلى نوعٍ من الانتِحارِ في المعمارِ، وهل من المقبول أن يكون المشروع متواضعاً، تخطيطيّاً وتنظيميّاً، وتصميميّاً، وحافلاً بالثقوب والعيوب، ومثالبِ الخلل والزلل، إن على مستوى المنهجِ (الآليّة الإجرائيّة)، أو الأُنموذجِ (المثال المُحتذى)، أو المُنتَجِ (كقيمة فنيّة)؟ أيكون في العاصمة، أم في مدينةٍ عانت ويلات وتبعات الحرب، وارتبطَت برمزيّة الانتصار على مشروع الاستعمار والاستثمار في التدمير والتكفير؟ وهل من المناسب أن يكون من حيث المحتوى والموضوع، مجرَّدَ مشروعٍ استهلاكيٍّ تصحبه مادةٌ تسويقيّة دعائيّة شعبويّة، سطحيّةٌ حافلةٌ بالأطروحات والطروحات المتناقضة والمغلوطة؟ وإذا كان لابد من أنُموذجٍ خارجيٍّ يُحتذى (مع التحفّظ المشروع)، فهل يكون مدينةً بلا تاريخ وجغرافيا، وبلا عُمقٍ حضاري، وبلا تجربةٍ في عُمران ما بعد الحروب.
وتمنى معد التقرير ألا نكون أمام إعادة إنتاج رديءٍ، لأنموذجٍ رديء، فيكون شاهِداً على رداءة المنهَجِ، والأنموذجِ، والمُنتَج. وعليه، أن مشروعيّةَ المشروع، لا تتأتّى (فنيّاً ومهنيّاً… أخلاقيّاً ووطنيّاً… رَيعيّاً ومجتمعيّاً) ممّا يُروَّجُ، بل ممّا يَتَّبِع من مَنهج، ويَتْبَع من أُنموذَجٍ، وما يكون عليه، بالنتيجة، كمُنتَج.
الطرقات
لفت القرير إلى أنه لا يكفي أن ندرك أو نؤمنَ بأن التقدُّمَ الفعليَّ في المعمار، والحداثةَ في العمران، لا يقاسان بحجم، و«كمّ» البناء، وإنما بالمعايير النوعيّة والكيفية منها، أو أنّهما (التقدُّمُ والحداثة) لا يتناسبان طرداً، بل عكساً، مع ارتفاع الأبنية، ووجبَ أن ندركَ أيضاً (وقبل فوات الأوان) أنّهما لا يتناسبان طرداً، بل عكساً، مع عرضِ الشوارع وطولها، ولا يُقاسان بمساحة الإسفلت، وسَطوةِ الإسمنت، وبالقدرة على إبدال الأخضرِ بالرماديّ، والاستثنائيِّ بالعاديّ، بل على العكس من ذلك تماماً، ولطالما كان الاتِّساعُ في الطرقات ضِيقاً، في حين رحُبت وتدفَّقَت بالحياة، طرقاتٌ وزواريبُ ضيّقةٌ، وحارات، ولطالما كانت تُبنى المدن وحواضرُ العمران المتحضرة مدى الأزمان، للإنسان، لا للآلة والعرَبات. وما خلا مرحلةَ سوء فهم، وسوءِ تطبيق الحداثة، لم يكن هدفُ تخطيط المدن، أو تنظيمها، وتصميمها، جعلَ الحياةٍ أسهلَ للمركبات، وأصعبَ، وأعقدَ للمشاة، بل العكسَ من ذلك تماماً.
ويرى التقرير أن زيادة عرض (وطول) الطرقات، هي مدعاةٌ، بالضرورة، ودعوةٌ مفتوحة للمزيد من عدد ومن سرعة السيارات، وللمزيد من الأخطار بأصنافها، بالتالي، ومن التلوث بأنواعه، ومن الاغتراب، والإقصاء، والنفيِ للإنسان داخلَ الأوطان. تلك هي النزعةُ المعاصرة في أكثر المدن والمجتمعات تقدُّماً وتحضُّراً حقيقياً. فهي لا تُعلي السيّارات والعربات على السائرين والعابرين، ولا تحتفي بشقِّها للمزيد من الطرقات وخصوصاً في الأرياف.
محمد راكان مصطفى