مقالات وآراء

موفد فرنسي في بيروت وقنابل أميركية على غزة.. قراءة التحولات الدولية لا تعترف بالعواطف!

بقلم: فراس عزيز ديب

في العلوم السياسة دائماً ما يكون هناك صراع بين المدرسة المثالية في التحليل والمدرسة الواقعية، هذا الصراع قد ينتج عنه الكثير من المفاهيم التي تُغني الحدث والنظرة المستقبلية لنهايتها لكنه بالوقت ذاته قد يكون سبباً للكثير من التناقضات التي تصب الزيت على النار، وأعترف أنني لم ولن أتعاطى مع أي حدث إلا من باب الواقعية فلو كانت الحقوق تُستردُ بالأناشيد والأهازيج وإبر التخدير، لكرَّستُ حياتي لأجل ذلك، لكن في الأحداث المفصلية فإن الأمنيات والوقائع قد لا يلتقيان، وهنا علينا محاولة الجمع بينهما وبأقل تقدير لا القيام بإعدام أحدهما على حساب الآخر.

منذُ إعلان تطبيق الهدنة في قطاع غزة نهايةَ الأسبوع الماضي واكتمال صفقة تبادل الأسرى والرهائن «غير المتوازنة» بين قوى المقاومة الفلسطينية والكيان الصهيوني والتي تزامنت مع همروجة «شكراً قطر»، طرحنا يومها سؤالاً جوهرياً: ماذا بعد الهدنة؟

ميزة هذا السؤال أنه جمعَ النقيضين في استهجانهِ، الطرف الأول هم أولئكَ الذين نظروا إلى ما تمَّ من هدنة على أنه انتصار، هل لكَ أن تتخيل ما قد يحملهُ إليك بعض من المطبلين لهذهِ الدولة أو تلك فيما لو فكرتَ مثلاً بالنظر لمسار الأحداث بواقعية وسألتَ أينَ هو الانتصار؟ قد تبدأ القصة باتهامك بالغباء وستتمنى لو تتوقف هنا لأنها ستكمل باتهامك بالعمالة، كنتُ فعلياً سأجلس وسأصفق لهذا الانتصار فيما لو توقفت المعارك من دونَ حدوث صفقة التبادل لأننا عندها سنعترف بوجود أوراق لدى المقاومة الفلسطينية ستمكنها من متابعة الصمود بعدَ أن تخلى عنها الجميع، أما اليوم فعن أي أوراق نتحدث؟

أما الطرف الثاني فهم أولئكَ الذين رأوا أنه منَ الإجحاف اتهام الوسطاء العرب في الهدنة وتحديداً مشيخة قطر بالباحث عن المصلحة الإسرائيلية- الأميركية لا المصلحة الفلسطينية، قلنا لننتظر إذن عسى أن تكون تلكَ القراءة للأحداث وما يتسرب من معلومات مغلوطة بما فيها مقايضة المشيخة للوجود الحمساوي على أراضيها يمنع اتهامها بدعم الإرهاب أو إفشاءِ أسرار الدعم المالي الذي تلقته حماس عبرَ أحد البنوك الإسرائيلية وبرضا إسرائيلي، مجردَ حربٍ إعلامية ضد مشيخة المقاومة والتحرير، فماذا كانت النتيجة؟

انتهت الهدنة، عادت آلة القتل الإسرائيلية أسوأ مما كانت عليهِ، بل ويبدو أنها بدأت تأخذ زِمامَ المبادرة أكثر في توسيع العدوان باتجاه لبنان وسورية، سيناريوهات بدأت تُطرح لمستقبلِ القطاع المدمَّر تبدأ بـ«القتل الذكي» وصولاً لإفراغهِ عنوةً مالم تُسلّم المقاومة سلاحها، أما أمير قطر المُحاط بأزلامهِ من حمساويي القصور، فخرج بصورةٍ مستفزة يصافحُ فيها رئيس الكيان الصهيوني إسحق هرتسوغ خلالَ قمةِ المناخ المنعقدة في إمارةِ دبي، لكن هذا ليسَ كل شيء، فجردة الحساب الموجهة ضد من لا يريدون رؤية الأمور بواقعية ستعود بنا إلى نهاية شهر تشرينَ الأول وفي زاوية بعنوان: «فلسطين بين الرواية الدينية ورواية الصمود.. إما الواقعية أو الانتحار!» قلنا: إن الدعم العسكري للكيان بعد فضيحة السابع من تشرين الأول ليس مزحة، لأن هناك من لم يدرك بعد الدور الوظيفي الذي يمثلهُ الكيان للغرب عامةً والولايات المتحدة بشكلٍ خاص، بل إن المساعدات ستتضمن تقديم سلاحٍ كيميائي فعال موجه لتخدير الأشخاص وقنابل مخصصة باقتحام التحصينات الأرضية، اليوم وبعدَ قرابةِ الشهر اعترفت صحيفة «وول ستريت جورنال» على لسان مسؤول أميركي بالقيام بتزويد الكيان بهذا السلاح ومن بينها قنابلَ عملاقة خارقة للحصون من نوع «بلو 109»، إذن المعركة مستمرة والهدنة كان هدفها فقط إنقاذ ما يمكن إنقاذه من رهائنَ بيدِ المقاومة، القضية ليست غزة أو حماس، القضية هي إنهاء هذا الصراع بإنهاء فكرة المقاومة بعيداً عن التصريحات الاستعراضية التي يطلقها البعض من قبيل المقاومة لن تنهزم وغيرها، لكننا نتحدث عن وقائع لا شعارات لا تُسمن ولا تغني من جوع، يبدو لها فعل التخدير الذي يعيشه العالم العربي تماماً كما فعل التخدير الذي يمارسه اليوم كل من يتآمر على غزة، وبمعنى آخر: كل تورط للدولِ الداعمة للكيان مباشرةً أو بشكلٍ غير مباشر، يقابلهُ جرائم إعلامية يرتكبها المجرم بقفازاتٍ حريرية للظهور بمظهرِ الحريص على الدم المهدور، هذه المغالطة يمكننا التعاطي معها بمستويين:

المستوى الأول: مستوى دولي، فخلال زيارتهِ الأخيرة للكيان الصهيوني للسعي إلى تمديدِ الهدنة، قال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إن على إسرائيل العمل على تجنب إيذاء المدنيين في حال استكمال العملية العسكرية، ربما لو كنتُ أملك تقديمَ النصيحة إلى صاحبَ القرار على الأرض في غزة لطلبتُ منهُ وقفَ تسليم الدفعة الأخيرة من الرهائن بعدَ كلام بلينكن، لأن الوجهَ الآخر لكلامهِ كان يعني ضمنياً أن العملية العسكرية ستُستكمل وهي ستلقى كل الدعم الأميركي وهو ما حدث، أما عبارة تجنب إيذاء المدنيين فهي ذلك المخدر الذي يضعهُ المسؤولون الغربيون في تصريحاتهم لا أكثر ولا أقل، السعي الغربي عموماً والأميركي خصوصاً للحديث عن النواحي الإنسانية مع كل تصريح أو تحرك يتعلق بالحرب على غزة هو جزء من المعركة الإعلامية التي تسعى لتحسين صورة هذه الدول بعدَ أن كشفتها جرائم الاحتلال، هذا الكلام لا ينطبق فقط على الجانب الأميركي، ففرنسا مثلاً أرسلت مبعوثاً رئاسياً إلى لبنان وهو وزير الخارجية السابق إيف لو دريان، اللافت أن جل الإعلام اللبناني والعربي تحدث عن هدف الزيارة المعلن وهو مساعدة لبنان على انتخاب رئيسٍ للجمهورية، لكن يبدو أن «لودريان» لا يدري بأن لبنان بلا رئيس منذ عامٍ تقريباً والحكومة هي لتصريف الأعمال فما الذي استجد؟ ببساطة فإن مصادرَ فرنسية تحدثت عكس ذلك، والهدف غير المعلن للزيارة هو سلاح المقاومة مهما حاول البعض التجنب في الخوض بهذا النقاش لأن السياق مستمر ونجاح الإسرائيلي في غزة، سيعني حكماً الانتقال إلى أماكن أخرى، ربما تكون رسالة تهديد وربما تكون عرضاً يُجنب لبنان السيناريو الغزاوي وربما الجمع بين الطرحين!

المستوى الثاني: وهو ما يتعلق بالدول الراعية للاتفاق، فمثلاً أن يخرجَ تقرير من قلب الكيان الصهيوني يتحدث عن خطة أعدَّها الكيان الصهيوني لاغتيال قادة المقاومة على الأرض كـ«يحيى السنوار» فهو تقرير لا يحمل أي جديد، لكن أن يزج هذا التقرير باسم المدعو خالد مشعل كمُهددٍ بالاغتيال، فهي أشبه بنكتةٍ سمجة؟ من سيغتال من؟ تخيلوا أن الكيان الذي يمنع خلال المعارك عن صحفييهِ نشر أي معلومةٍ حتى عن سقوط قذيفة ضمن الأراضي الفلسطينية المحتلة، سمح بنشر هذه الخطة الأمنية المُحكمة، هل عليّ كمواطن عربي أن أُصدق؟

هنا دعونا نعود بالذاكرة إلى الزيارة التي قام بها خالد مشعل إلى قطاع غزة في العام 2012 وقيامهِ برفع ما يسمى بـ«علم الثورة السورية» فلماذا لم تغتله قوات الاحتلال يومها وبالحد الأدنى لماذا سمحت له بالعبور حتى ولو عن طريق معبر رفح، وهل كان الكيان يكترث إلى المكان المستهدف! أم إن الدور المنوط بمشعل مستقبلاً كان أهم، نحن هنا لا ننتقد لكننا ببساطة نحاول رؤية الأمور من منظور آخر عندما يتعلق الأمر بتبييض إعلامي لوجوهٍ بغيضة، ولربما أن العبارة الوحيدة الصحيحة التي وردت في التقرير هي الحديث عن رغبةِ نتنياهو بتقويةِ حماس على حسابِ السلطة الفلسطينية وهذا ما جرى ويجري بواقعية مطلقة، لأن نتنياهو وغير نتنياهو يعرفون تماماً أن تنظيمات الإسلام السياسي قادرة أن تكون مطواعة تحت أي بندٍ بموجب النقلِ والعقل، ولكي تتضح الصورة أكثر فإن ما قامت بهِ السلطة الفلسطينية من مسار أوسلو المستند إلى الشرعية الدولية مثلاً هو خيانة، لكنه في الجهة المقابلة يعتبر «جنوحاً للسلم» على مبدأ: «و إن جنحوا للسلمِ فاجنح له»، كل هذا التخدير والضخ يأخذ القضية الفلسطينية خصوصاً والمنطقة عموماً، إلى سياقٍ مختلف فماذا ينتظرنا؟

ببساطة، الجميع اليوم يبحث أن يكون جزءاً من الصفقة القادمة، هذه الصفقة حكماً لن تؤدي كما يعلن البعض لإخراج الأميركي من المنطقة، لأننا بواقعية لا نمتلك القدرة على ذلك، كفاكم شعارات، تحديداً لأن الدول العظمى كالصين وروسيا لا يرون أنفسهم طرفاً في الصراع بمعزلٍ عن رأينا إن كانوا محقين بذلك من عدمهِ، لكن على الطرف المقابل تبدو الولايات المتحدة هي الامتداد الحقيقي لكل سياسات الكيان الصهيوني، ما يعني أنك تواجه الأميركي لا الإسرائيلي، لأن هذا الأخير مجردَ أداة لا أكثر كما هي داعش وكما هم الإخوان المجرمون، ولكي نكون منصفين أكثر كفاكم شرف المحاولة، لكن هذهِ الشعوب بات من حقها أن تعيش بالحد الأدنى من الأمن بعدَ أن أدركَ الجميع أن المواجهات العسكرية ليست نزهة! حتى من كان يصدع رؤوسنا بانهيار الأنظمة الخليجية، بات صديقها الصدوق! فمتى نستوعب أن السياسة والعواطف خطانِ متوازيان لا يلتقيان؟!

كاتب سوري مقيم في باريس

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock