هل هي مصادفة؟
بقلم: أ. د. بثينة شعبان
هل هي مجرّد مصادفة أن ينشر مدير الـ«سي آي إي» وليام بيرنز مقالاً في مجلة «فورين أفيرز» عن «فن التجسس وفن الحكم» في 30 كانون الثاني في الوقت الذي تدور فيه وساطات من دول عربية وغير عربية للتوصل إلى صفقة بين الكيان الصهيوني والمقاومة تكسر ظهر المقاومة ولا تقدّم لها شيئاً بل تعمد عملياً إلى إنهائها وإنهاء القضية الفلسطينية وتحقيق هدف الكيان وحلفائه بإعادة الأسرى الإسرائيليين من دون وقف نهائي للعدوان ودون أي التزام بإنهاء معاناة أهل غزة من الحصار أو المباشرة بإعادة الإعمار؟ سواء كان الأمر مصادفة أم غير ذلك فإنه حريٌّ بنا أن نتوقف مع الأفكار الأساسية في هذا المقال ونعيد قراءة ما حدث خلال وفي أعقاب حرب تشرين التحريرية والآثار الكارثية لما تمّ التوصل إليه بعد الحرب من اتفاقيات سيناء 1 و2 وكامب دافيد والتي دقت إسفيناً مسموماً في جسد الأمة العربية ومازال العرب يدفعون ثمنه في كل أقطارهم وعلى جميع المستويات.
مقال وليام بيرنز مهم لأكثر من سبب وأول هذه الأسباب هو أنه يكشف الفرق الكبير بين الطريقة التي يفكر بها من يستهدفون أمتنا والشعوب المستضعَفَة في الأرض، وطريقة الواقعين تحت هذا الاستهداف والذين يكرّرون أخطاءهم عبر عقود وقرون من دون أن يتوقفوا وقفة حقيقية صادقة مع مجريات ما حدث لهم ودمّرهم، ويتعلموا منها ويغيروا أساليبهم وآليات عملهم وسردياتهم، بما يزيد من درجة تحصينهم ويقيهم شروراً قادمة يتمّ إعدادها لهم بأغلفة وأشكال وذرائع تمّ تصميمها لذرّ الرماد في العيون واستقدامهم إلى حتفهم المحكم المؤكد، ولنبدأ من البداية.
يبدأ وليم بيرنز مقاله بالتأكيد على أن «التجسس كان وسيبقى جزءاً عضوياً من فن الحكم حتى وإن تطورت تقنياته باستمرار»، وأن «الاختبار الأهم للتجسس كان دائماً قدرته على استقراء المتغيرات العميقة التي ستحدث على الساحة الدولية ومساعدة السياسيين وصنّاع القرار على الإبحار وتحديد المسار ضمن هذه المتغيرات والتي تحدث فقط بضع مرات كل قرن»، ويضيف: إن هذا الوقت هو وقت التحديات الكبرى لـ«سي آي إي» ولكل مهنة التجسس مع المتغيرات الجيوسياسية والتقنية والتي تشكل اختباراً من أكبر الاختبارات التي واجهناها.
بهذه العقلية وبهذا المنظور المحكم يواجه الأميركيون والإسرائيليون والغرب عموماً ما جرى في فلسطين في الأشهر القليلة الماضية ويحاولون من خلال المفاوضات والوساطات والادعاءات بوجود فرص سانحة لن تتكرر، أن يتوصلوا إلى الصفقة التي يريدونها هم وحلفاؤهم وبأبخس الأثمان ومن دون أن يقدّموا شيئاً يليق بالتضحيات والصبر والمعاناة غير المسبوقة لشعب فلسطين والتغيير المهم الذي حصل في الوجدان العالمي وعلى الساحة الدولية، كل ما تعرض له الفلسطينيون من إبادة وقتل وتهجير وتجويع غير مسبوق إلا لدى سكان أميركا الأصليين والأبورجينز في أستراليا، لم يستحق سطراً واحداً في سردية السيد بيرنز بل أشار إلى أن «الأزمة التي سببتها المذابح المرتكبة من قبل حماس في 7 تشرين الأول 2023 كتذكير مؤلم بتعقيد وتشابك الخيارات في الشرق الأوسط الذي تواجهه الولايات المتحدة»، وهذا يعني برأيه أن الولايات المتحدة يجب أن تشقّ طريقها في الشرق الأوسط بحرص ومبدئية وألا تتساهل وأن تستخدم تأثيرها بحكمة.
هذا يعني أن الولايات المتحدة تعتبر ما يجري اليوم في فلسطين والمنطقة أمراً يعنيها بشكل مباشر وأنه لا يمكن حلّ شيء من دون قيادة الولايات المتحدة، معتبراً أن إحياء الأمل بسلام دائم يضمن أمن إسرائيل ونوعاً من الدولة الفلسطينية هي فرصة تاريخية للتطبيع مع المملكة السعودية وبلدان أخرى، وفي سرديات أخرى يعتبر الأميركيون أن التطبيع مع السعودية سيفتح الباب لإسرائيل للتطبيع مع باقي الدول العربية والإسلامية الأمر الذي سيغيّر الوضع الإقليمي والدولي لمصلحة كيان الأبارتيد الصهيوني.
وضرب بيرنز أمثلة على أهمية عمل الـ«سي آي إي» في النجاحات التي حققتها الولايات المتحدة سواء بالنسبة لروسيا أو الصين أو أفغانستان أو ما تحاول اليوم تحقيقه في الشرق الأوسط والذي يهدفون منه إلى إنهاء المقاومة أو إخراج قادتها إلى بلد يضمن منعهم من القيام بأي نشاط وتصفية القضية الفلسطينية وإنعاش مسار التطبيع في الإقليم والعالم مع كيان الأبارتيد الصهيوني.
المقال مهم وطويل ولابد للقارئ المتمعّن من أن يدرك الاختلاف الجذري للأدوات التي يستخدمونها والسرديات التي يستخدمونها و«الفرص» الواهية التي يتحدثون عنها وعدم تكرار هذه الفرصة في المستقبل للتوصل إلى ما يبتغون ثمّ التنصل من كل كلمة أو عهد لا يصب في تحقيق كامل مخططاتهم ورؤاهم المستقبلية، ولنكتشف للمرة الألف أن أي ضمانات قدموها في الماضي وفي أي مفصل تاريخي لم تكن لتعني شيئاً سوى لقيادة الجميع إلى التوقيع على الصفقة التي يريدون والتي تحقق كل أهدافهم للانطلاق منها لعمل أعقد وأهم يهدف إلى تحقيق أهداف أخرى أكبر شأناً، أما الادعاءات بـ«ضيق الوقت» و«ضغط الولايات المتحدة على إسرائيل» و«ندرة حدوث هذه الفرصة» التي إذا ضاعت لن يكون من الممكن تعويضها، فقد سمعناه في التسعينيات من الوفود الأميركية والإسرائيلية في عملية السلام كما تمّت إعادتها على أسماع الرئيس حافظ الأسد مرات ومرات من قبل وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كسنجر الذي كان يسعى حينها إلى صفقة مع سورية مماثلة للصفقة التي توصل إليها مع السادات.
ولكن والحق يقال فإن علينا نحن العرب جميعاً وبعد هذا التاريخ المؤلم وبعد كل الخسائر التي أنهكت أمتنا أن نعيد النظر بأساليب عملنا وبآليات هذا العمل وبالمعطيات التي تقودنا غالباً إلى مخرجات مؤسفة تلقي بظلالها على حياة أبنائنا وأحفادنا فقط ليعيدوا إنتاج ما أنتجناه في وقت لاحق ويورثوا أبناءهم مصائب مشابهة لما ورثوا عنا في وقت سابق، فالنقطة الأهم التي يبدأ بها مقال بيرنز هي: «استشراف آفاق الأحداث المستقبلية التي تواجهنا»، وكل هذا يحتاج ليس إلى نخبة من الجواسيس والحكام فقط وإنما إلى نخبة من المفكرين والخبراء والمحلّلين وأصحاب العقول النيرة القادرين على قراءة الحدث واستكشاف ارتداداته المستقبلية المحتملة وتقديم النصح والمشورة بناء على ذلك.
فهل نعامل نحن العرب تاريخنا بالطريقة ذاتها؟ وهل نعكف على دراسته واستخلاص العبر ممّا حلّ للسابقين في بلداننا والحكم عليه بصدق وجرأة من دون ممالأة أو محاباة وبهدف واحد وحيد وهو أن يكون عبرة للمعتبرين وأن يخدم استقراءاتهم وخططهم وأهدافهم المستقبلية؟ أم إننا نقارب الأحداث باستحياء خوفاً على مشاعر الأبناء والأحفاد والعشيرة ومن دون خوف على مستقبل الأوطان الذي برهن مرة تلو أخرى وعبر قرون أنه لا يُبنى إلا على الصدق والجرأة ومواجهة الواقع والتخطيط المحكم والذكي والكفوء للقادم من الأيام؟ صحيح أن الغرب أقدر مادياً وعسكرياً من بلداننا ولكننا يجب ألا ننسى أن أساس كل قوة بما فيها المادية والعسكرية هي الفكرة النابعة من الخبرة والعلم والحرص والرؤية الثاقبة.