من خان شيخون إلى المنطقة العازلة: من هو المرتبك؟
قبل أيام حاولَ إرهابي ينتمي لما يسمونهُ المعارضة السورية جناح تنظيم النصرة تفجيرَ عربته المفخخة بإحدى نقاط الجيش العربي السوري خلال عملية التثبيت على أطراف «تل مرعي»، لكن يبدو أن الإرهابي المرتبك من تعاطي قوات الجيش العربي السوري معه استعجلَ لقاءَ حورياتهِ فانتابهُ الخوف ليفجرَ نفسهُ قبل الوصول إلى تلك النقطة، حال هذا الإرهابي يشبهُ كثيراً حالَ رعاتهِ من دولٍ أو منظماتٍ تعمل باسم الإنسانية، وبمعنى آخر: هناك نزوع عند الطرفِ المتآمر على سورية لانتهاجِ فرضيةِ حرق المراحل، ليَظهروا كمن يفجِّر نفسهُ قبل الوصول إلى الهدف فكيف ذلك؟
على وقعِ التقدم الكاسح الذي حققهُ الجيش العربي السوري على محورِ أرياف حماه وإدلب، ارتفع الحديث من جديدٍ عن إقامة المنطقة العازلة في الشمال السوري بعد خروج التفاهمات التركية الأميركية إلى العلن وتجاوز الخلاف ولو ظاهرياً حول عمق المنطقة العازلة. تقدمٌ تركَ البابَ مفتوحاً للكثيرِ من التساؤلات، إن كان لجهةِ الحدود التي سيصل إليها الجيش العربي السوري في عملياتهِ تلك أو طبيعةَ رد الفعل التركية على ما يجري.
في السؤال الأول تبدو الفكرة المتداولة عن السعي السوري لتطبيقِ تفاهمات أستانا بالنار أو التوغل لمسافة عشرين كيلو متراً بهدف السيطرة على الطريق الدولي دمشق حلب، أو أريحا اللاذقية كنوعٍ من التكرارِ لأفكار غير متكاملة، فالسيطرة على الأوتستراد الدولي تحتاج لعمق أكثر من عشرين كيلو متراً، كما أنها لا تتم فقط بالسيطرة على خان شيخون أو حتى مورك، هي عملياً بحاجة للسيطرة على مناطق لا تقل أهمية عن سابقاتها كمعرة النعمان وسراقب، وما يعنيهِ عملياً سقوطَ تلك الكتل الوازنة من تجمعاتِ الإرهابيين التي تعتبر بيضةَ القبان في مشروعِ العثمانيين الجدد، ليصبحَ معها الريف الشمالي انطلاقاً من خان العسل وصولاً للحدود التركية تحصيلَ حاصل.
أما من الجهةِ الغربية فإن السيطرة على الطريق الدولي المار بأريحا يتطلب الكثيرَ من العملِ للسيطرةِ على المناطق الممتدة من جبلِ الأربعين المشرف على أريحا وصولاً إلى ما بعد جسر الشغور، على هذا الأساس يبدو السعي للسيطرة على هذهِ المسافات الشاسعة والوعرة، من خارِج تفاهمات أستانا حُكماً، ولا علاقةَ له لما يُحكى بعد كل عمليةٍ مشابهة حول سيناريو استلام وتسليم، هي عمليات عسكرية قرارها سوري صرف نعلم متى بدأت لكن من الصعب التنبؤ بحدودِها الجغرافيّة، مع الأخذِ بعينِ الاعتبار تبدلَ الأولويات في المعارك.
أما في السؤال الثاني فقد تركَ الصمت التركي حيالَ ما يجري من تداعٍ لعصاباتهِ الإرهابية الكثير من التساؤلات عند من لا يزالون يثقونَ به، تحديداً أن النظام التركي لم يكتفِ فقط بالانكفاء عن مساعدتهم لكن هناك من يتهمهُ عملياً بالتسببِ بمقتلِ الكثير من القيادات الميدانية للإرهابيين عبر تحديدِ إحداثياتِهم للطيران الروسي.
حتى في قضيةِ إسقاط الطائرة السورية فوق التمانعة قبل أيام، فإن مسألةَ قيام النظام التركي بتزويد الإرهابيين بمضادات طيرانٍ تبقى قضيةً غيرَ مكتملةِ الأضلاع، هل هو سلاحٌ تم تسليمهُ مسبقاً، أم أنه جاء كردةِ فعلٍ تركية على التقدم الشرس للجيش العربي السوري؟ لكن ما هو مهم أن يتزامن التقدم السوري مع إعلان أميركي تركي مشترك عن الوصول إلى اتفاقٍ لإنشاءِ منطقة عازلة في الشمال السوري، هذه المنطقة التي كانت ولا تزال حلماً أردوغانياً يبدو أنها تقترب عملياً من تحولها إلى حقيقة، فهل تمكنَ النظام التركي من استعادةِ ورقةٍ هامة قد تعوّضهُ ولو جزئياً عن هزائِمهِ المنتظرة في إدلب؟
ليس كل ما يلمع ذهباً، عبارةٌ قد تختصر ما يجري بين التركي والأميركي، فالتناغم بينهما بما يتعلق بالمنطقة العازلة قد لا يعني أن الأمور على أحسن حال، فمثلاً إن إقامة هذهِ المنطقة قد يعني عملياً أن الطرفين سيدفعان بالأكراد الذين يسيطرون على قرار ميليشيا «قوات سورية الديمقراطية – قسد» للانعطافِ نحو دمشق، هذا الكلام قد لا يبدو عملياً مجردَ تسريباتٍ، فالقضية باتت، بحسب أنباء يتم تسريبها بين الحين والآخر، في مفاوضاتٍ متقدمةٍ، تحديداً أن جزءاً كبيراً من الأكراد يعملون لمنعِ تكرَار سيناريو عفرين حين وقفَ الجميع صامتاً حيالَ ما ارتكبهُ وما يرتكبه النظام التركي من جرائم، ليدفع الأبرياءَ ثمن تعنت قياداتهم بعدم التعاون مع القيادة السورية.
في سياقٍ آخر لا يمكن النظر إلى هذا الاتفاق إن تم من دون معيارين أساسيين:
المعيار الأول، هو تجسيد للخلاف الروسي التركي أو كما أسميناه قبل أسبوعين بالتحديد نفاد صبرٍ روسي من المماطلات التركية في تنفيذ التفاهمات الثنائية، هذا الكلام تجسد كذلك الأمر على أرضِ الواقع من خلالِ الدعم الروسي للعملياتِ العسكرية في إدلب، أما في الجانب التركي فلا يمكن أن نفصلَ بين كلام رئيس النظام رجب طيب أردوغان الأخير عن عدم الاعتراف بضم روسيا للقرم ووصفه بغير الشرعي وما تعانيهِ العلاقات الروسية التركية اليوم.
المعيار الثاني، وهو العلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا بشكلٍ عام ليصبح السؤال المنطقي هل هذا التوافق ناتج فعلياً عن تطابقٍ في المصالح والأهداف، أم أنها نارٌ تحتَ الرماد قد لا نعلم متى ستشتعل؟
لكي نجيب على هذا السؤال علينا أن نوسع الدائرة وصولاً لفرضيةِ أن هناك الكثير من التفاهمات جرت وتجري بين الروس والأميركيين، لا يبدو فيها التركي أكثر من مجردِ مفخخةٍ سيجري تفجيرها عند انتفاءِ الحاجة لها فماذا ينتظرنا؟
لا يبدو أن الجيش العربي السوري أطلقَ عملية إدلب لتتوقفَ قبلَ تحقيقِ الكثير من الانجازات القادرة على قلب الوقائع، لكن بذاتِ الوقت لا يمكن النظر لمشروعِ المنطقة العازلة على أنها تجسيد لانتصارٍ تركي جديد، فما يريده الأميركي في الشمال الشرقي لسورية هو ورقة للمساومة في الإطار الأوسع لا ليصرفها في سوقِ المماحكات مع التابع التركي، فهل يبدو أن كل ما يجري هو جزءٌ من تفاهماتٍ أَوسع وأشمل؟
كل شيء جائز لمَ لا؟ فمن كان يتوقع مثلاً أن الولايات المتحدة فتحت ومنذ أكثر من عامٍ خطوط اتصالٍ مع إيران بما يتعلق بأفغانستان والوصول إلى اتفاق سلامٍ مع طالبان؟ إنها السياسة قد لا تبوح لك إلا بجزء صغير مما يحدث في الكواليس. وحدهم من سيدفع الثمن أولئكَ الذين يظنون أنفسهم لاعبين وهم في الحقيقة مجردَ أوراقٍ ستتطاير في سماءِ التفاهمات كما تطايرت طموحات ذاك الإرهابي الذي فجر نفسهُ باستعجال، لكن الأكثر تراجيدية لو صدقَ السيناريو القائل إن التنظيمات الإرهابية فجَّرت المفخخة قبل وصولها لأنها أدركت أن الارتباك الذي يعانيه الإرهابي كارثي، لننظر من حولنا ونتساءل: من هو المُرتبك؟