أليس بينكم رجل رشيد؟
بقلم: أ. د. بثينة شعبان
مأساة إنسانية غير مسبوقة تسبّب بها عدوان صهيوني مصمّم على حرب إبادة ضد شعب بأكمله كي يستعيد احتلاله الآثم للأرض والبحر.
أُجيل النظر فيمن نسميهم خطأً «قادة» من الولايات المتحدة إلى أوروبا إلى اجتماع الـ G7 في اليابان مؤخراً، باحثة عن أدنى شعور إنساني طبيعي يجب أن يعتريهم، ومتجاهلة حتى الصفات القيادية والسياسية ولكن فقط لأعود بخفيّ حنين، هل يعني تبوّؤ هذه المناصب السياسية العليا الانفصال عن الطبيعة البشرية السليمة؟ هل يعني ذلك انعدام الإحساس بنساء وأطفال ورجال يموتون بسبب نقص الأوكسجين والماء والدواء والغذاء أمام أعينهم ويسمعون صرخاتهم؟ كيف يمكن للتظاهرات أن تعمّ كل أرجاء الدنيا من دون أن تُسمِع هؤلاء القابعين في مكاتبهم مدّعين أنهم يمثلون شعوبهم والإنسانية منهم براء؟ أم إن لهم آذاناً لا يسمعون بها؟
هل يمكن لأعضاء برلمان في بريطانيا أن يصوّتوا ضد وقف إطلاق النار في غزة، حيثما كانت هذه النار؟ أوليس من واجبهم كعاملين مفترضين في السياسة أن يصوّتوا لوقف إطلاق النار وإيجاد الحلول؟ وهل يمكن لرئيس دولة أن ينسحب من جملة بسيطة أقل ما يمكن أن يقال: «اليوم المدنيون يُقصفون، هؤلاء الأطفال، هؤلاء النساء وكبار السن يتمّ قصفهم ويموتون»، حيث اضطرّ في اليوم التالي أن يتصل بقادة الاحتلال ويعتذر عمّا قاله ويعبّر عن دعمه للكيان الغاصب بالدفاع عن النفس؟ وهل يمكن أن دول الـ G7تخصص وقتاً للمفاضلة بين هدنة إنسانية وتوقف إنساني، وتنتهي إلى «توقف إنساني» لأنه أقصر من الهدنة؟! وهم أمام واقع تطهير عرقي واستباحة غير مسبوقة لحياة البشر والشجر والحجر والجرحى والأطفال الخدج وحديثي الولادة والأمهات؟
لقد برهنت حرب الإبادة التي يقوم بها الكيان الغاصب بدعم مطلق من الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، أن كل ما يدّعيه الغرب من ديمقراطية وحرية وحقوق إنسان، كذبة كبيرة، وأن الهوّة كبيرة في بلدانهم بين الحكام والمحكومين، وأن لا صوت ولا رأي لشعوبهم في القرارات التي تتخذها الطغم الحاكمة، وأن حق التظاهر موجود ولكن لا قيمة عندهم للمتظاهرين ولا لأصواتهم مهما بلغ عددهم؛ فالمتظاهرون يصرخون والمسؤولون داخل قاعات اجتماعاتهم صمٌّ بكمٌ عميٌ يتخذون القرارات التي تحلو لمن يدفع لحملاتهم الانتخابية.
كما برهنت هذه الفترة المؤلمة أن الحركة الصهيونية لا تعبّر عن اليهود كلهم، وأن مئات الآلاف من اليهود قد برّؤوا أنفسهم ممّا يقوم به كيان الأبارتيد الصهيوني من جرائم حرب وإبادة، ولذلك فإن التعاون والتعاضد بين اليهود والمسلمين والمسيحيين لحماية إنسانية الإنسان يجب أن يكونا الطريق الواضح والسليم من الآن فصاعداً، بعيداً عن ابتزازات الكيان الصهيوني وادّعاءاته وخلطه المتعمّد والدائم بين اليهود والصهيونية وخاصة أن أصواتاً يهودية محترمة قد وقفت وقفة جريئة وعظيمة ضد إبادة الفلسطينيين في غزة والضفة وفي عموم فلسطين، وأيضاً توضحت حقيقة أخرى بالأهمية نفسها وهي أن ليس كل الصهاينة يهوداً بل منهم مسيحيون صهاينة ومسلمون صهاينة وهندوس صهاينة متخفون، وبعضهم يعلن صهيونيته ويبارك إبادة عشرات الآلاف من عرب غزة بالقصف الجوي الأهوج.
لقد برهن الضمير العالمي أنه يفهم حقيقة الأمور كما هي، على الرغم من كل محاولات التشويه في الإعلام الغربي الذي تتحكم فيه الأموال الصهيونية، حيث انتفض هذا الضمير في كل قارات الأرض دعماً للشعب الفلسطيني وحقه المشروع في العيش على أرضه بسلام وحرية وسيادة، وعبّر عن رفضه القاطع للاحتلال الصهيوني لفلسطين ودعمه لحرية فلسطين والشعب الفلسطيني، وهذا الأمر قد وضع القضية الفلسطينية، حيث تستحق، في صدارة الاهتمام العالمي وفي أولوية القضايا السياسية والتحرّرية في العالم، ولم تعد قضية عربية أو إسلامية فقط وإنما هي قضية عالمية تماماً، كما كانت حركة التحرّر في جنوب إفريقيا قضية عالمية تبناها العالم برمّته قبل القضاء على الحكم العنصري في جنوب إفريقيا.
لقد فنّد هذا الضمير العالمي وبسهولة ويُسر، كل الدعايات المزيّفة للصهيونية وحلفائها، ورفض أكاذيبهم واتهاماتهم للمقاومة بالإرهاب، ووقف بكل جرأة وقناعة إلى جانب المقاومة وانتصر لها لأنه رأى بأمّ عينه أن ما تمارسه قوات الاحتلال الغاشم من قتل وجرائم حرب وانتهاك لكل الحرمات، هو الإرهاب بعينه، وأن حركات المقاومة في كل مكان هي ردّة فعل طبيعية على الاحتلال والقهر والظلم والإرهاب، فقبل العدوان الإسرائيلي الغاشم على لبنان في العام 1982 لم يكن في لبنان حزب اسمه حزب الله، لكنّ هذا الحزب تكوّن وتشكّل لتحرير أرضه وإرادته وشعبه ولإطلاق الأسرى اللبنانيين من المعتقلات الصهيونية الغاشمة التي أقامها العدو الصهيوني على أرض لبنان، ومنطق التاريخ يَعِد كل المحتلّين بمقاومة تعيدهم من حيث أتوا عاجلاً أم آجلاً كما حدث في الجزائر وفيتنام وجنوب إفريقيا وغيرها، وهذا حق مشروع للشعوب تصونه كل المواثيق والأعراف الدولية، فإذا كان الغرب يرفض إلى حدّ اليوم تعريف الإرهاب، فإن العدوان الإسرائيلي السافر والمستمر على فلسطين هو تجسيد حيّ للإرهاب والقتل والظلم واستباحة حياة البشر، فقط لأنهم يحاولون العيش على أرضهم بسلام وحرية وكرامة.
إنّ حرب الإبادة التي ترتكبها الصهيونية، نجم عنها دروس ودروس سنستغرق سنوات في تدوينها وتفنيدها وتصنيفها في التاريخ العالمي، فقد برهنت أن حكومات الغرب برمّته لا تقيم وزناً لقوانين إنسانية ومنظمات أممية، وأن مهزلة مقولة «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها» ستكون وصمة عار حقيقية في تاريخهم، وحرب الإبادة هذه تبيد بالإضافة إلى البشر الثقافة والمكتبات والتاريخ والأعراف والعادات والتقاليد، تماماً كما فعل الأميركيون بسكان أميركا الأصليين، والأستراليون بالأبورجينز، ومن النزر اليسير الذي تبقى من هاتين الحضارتين أدركنا أنهما حضارتا ثقافة وفنون وروحانيات وانسجام مطلق مع الطبيعة والحكمة والفطرة السليمة.
علّ هذه الدروس مجتمعة أعطت السكينة والكِبَر للرئيس الصيني شي جين بينغ في لقائه الرئيس الأميركي جو بايدن حين قال لمضيفه: «إن الصين لن تتبع المسار القديم للاستعمار والنهب، ولن تتبع المسار الخاطئ للهيمنة عندما يصبح بلد ما قوياً»، ودعا مضيفه أن يكفّ عن تسليح تايوان لأن الصين ستحقق التوحيد: «هذا أمر حتمي».
لا شك أن الرئيس شي الذي تابع الوحشية الأميركية الصهيونية في فلسطين، والذي عبّرت بلاده عن دعمها للفلسطينيين، يعلم علم اليقين أن هذا التوحش الصهيوني الغربي مصيره الإفلاس والخسارة، وأن المسار الذي تتبعه الصين؛ المسار التشاركي الإنساني والبعيد عن الهيمنة والمؤمن باحترام الآخرين وعدم التدخل في شؤونهم، هو الذي سوف ينتصر حكماً في نهاية المطاف.
الصين تبني وتعمل وتنتظر، أما نحن الذين يتكالب الطامعون على أرضنا وتاريخنا ومقدّراتنا فعلينا أن نمحّص ما يجري لأهلنا في فلسطين ونستخلص العِبَر ونُسرعَ الخُطا في بناء الذات وتحصين الأوطان آخذين في الحسبان كل الدروس المستفادة الإقليمية والدولية منها.