مقالات وآراء

الأبعاد الجيو إستراتيجية للعقيدة العسكرية اليابانية

| محمد نادر العمري

في قرار ليس باعتيادي أو روتيني وبعد عقود من تبنيها لسياسة التعايش السلمي والالتزام بعدم امتلاك قوة عسكرية، تبنت اليابان، وبتشجيع من الولايات المتحدة، عقيدة إستراتيجية عسكرية جديدة يتخللها زيادة للإنفاق العسكري فقررت رفع الإنفاق الدفاعي للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية إلى 2 في المئة من إجمالي دخلها القومي، أي بمبلغ سيصل إلى 320 مليار دولار بحلول العام 2027، ما يتيح لها أن تكون الدولة الثالثة على مستوى العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية والصين في هذا الإنفاق على مدى نصف عقد من الزمن، وهو ما يوحي بإحداث تحول إستراتيجي لطوكيو من حيث التفكير الجدي في امتلاك قوة عسكرية قادرة على منحها مشاركة فعالة في أي صراع إقليمي ولاسيما في إطار التنافس الصيني الأميركي في منطقة المحيط الهادي.

القيود العسكرية الصارمة التي فرضتها الولايات المتحدة على اليابان بعد إعلان استسلامها نهاية الحرب العالمية الثانية، والمكرسة بالدستور الياباني ولاسيما المادة التاسعة منه، يبدو أن واشنطن تريد كسره في هذا الوقت، ليس إيماناً منها بحق اليابان في امتلاك قوة ردعية للدفاع عن نفسها، ولكن في إطار تدعيم موقفها ضد الصين في ظل التنافس المحموم الذي تشهده الدولتان في طبيعة العلاقات الثنائية وضمن توسيع مصالحهما الحيوية، وهو ما يفسر بالدرجة الأولى مسارعة الولايات المتحدة الأميركية للترحيب بهذه العقيدة على لسان وزير الدفاع لويد أوستن الذي قال: إن واشنطن تدعم قرار اليابان في اكتساب قدرات جديدة تعزز الردع الإقليمي، بما في ذلك قدرات الضربات المضادة، مضيفاً إن الولايات المتحدة ملتزمة بالعمل مع اليابان لدعم الأهداف المنصوص عليها في إستراتيجيات البلدين، وهو الأمر الذي أكده مستشار وزير الدفاع الأميركي لأمن آسيا والمحيط الهادي، بقوله: إن «العقيدة العسكرية الجديدة لليابان تعني تغيرا واضحاً ومؤثراً في سياساتها، وهو أمر مرحب به في واشنطن، وخطوة جريئة للدفاع عن منطقة المحيطين الهندي والهادي، وخاصة أن الصين تطور برنامجها النووي وتزيد من رؤوسها النووية».

من جانب آخر تؤكد هذه الإستراتيجية استمرار واشنطن في اللجوء لحروب الوكالة ودعمها، بمعنى عدم خوضها للحروب المباشرة، أي على غرار ما يحصل في أوكرانيا وقبلها غزو ليبيا، ولكنها تدعم تسليح حلفائها للقيام بتحقيق إستراتيجيتها، هذه الإستراتيجية التي لم تختلف صياغتها عن صياغة الإستراتيجية اليابانية التي تلاقت وتشابهت معها على اعتبار ما وصفته «بغزو روسيا لأوكرانيا» هو انتهاك جسيم للقوانين التي تمنع استخدام القوة وهو ضرب للأسس التي قام عليها النظام العالمي، وكذلك في تضمين وثيقة إستراتيجية الأمن القومي الياباني بأن الصين هي التحدي الأكبر والأخطر للبلاد، مضيفة إن بكين لم تستبعد استخدام القوة العسكرية لإحكام السيطرة على جزيرة تايوان التي تتمتع بالحكم الذاتي، وفق وصف صيّاغ هذه الوثيقة الذين لا يمكن تصنيفهم بعيداً عن التأثير الأميركي وذلك لعدة أسباب:

أولاً – الإدارة الديمقراطية وبصورة خاصة إدارة باراك أوباما وجو بايدن دعمت وضع إستراتيجية للأمن القومي الياباني وكان أولها عام 2013، رغم أن واشنطن فرضت على اليابان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945م، قيوداً لعدم امتلاك إستراتيجية عسكرية وأرغمتها على قبول وجود عسكري أميركي يبلغ قوامه اليوم 86 قاعدة، ما يجعلها أكبر دولة آسيوية تضم مثل هذه القواعد.

ثانياً – ترتبط طوكيو مع واشنطن بتحالف عسكري تحظى فيه اليابان بميزات لا يحصل عليها إلا حلفاء واشنطن المقربون مثل بريطانيا، منها التمتع بميزات نظام الدفاع البحري الأميركي «إيجيس»، والذي تم تزويد المدمرات اليابانية «كونجو» به لحماية اليابان من أي صواريخ اعتدائية، وهو ما يجعل اليابان من الناحية الواقعية غير متخوفة من التطورات والتهديدات المتزايدة.

ثالثاً – الشروط التي تضمنتها التعديلات الجديدة بشن «ضربات مضادة» ضد دول تعتبرها معادية، وتقيدها بثلاثة عوامل في مقدمها أن يكون التهديد حتمياً لليابان أو لدولة صديقة، هي من أبرز الدلائل على خدمة الإستراتيجية الأميركية المتمثلة في إشغال الصين بخلافات وصراعات مع دول الجوار كما بات يحصل اليوم في أوكرانيا.

رابعاً – رفع ميزانية وزارة الدفاع اليابانية في السنوات الخمس المقبلة لتناهز 80 مليار دولار، وهو ما يعادل 10 بالمئة من إجمالي الإنفاق الحكومي، وتحولها لصاحب ثالث أكبر إنفاق دفاعي في العالم بعد الولايات المتحدة والصين، اعتماداً على أرقام الميزانيات الحالية لهذه الدول، تصب في مصلحة واشنطن، أولاً لأن من شأن ذلك أن يزيد المخاوف الأمنية والعسكرية للصين التي ستقوم بدورها بزيادة إنفاقها العسكري بما يؤثر على مسار نموها الاقتصادي، وثانياً ستزيد مبيعات المجمع الصناعي الأميركي الذي ارتفع خلال أزمة أوكرانيا ليسجل نمواً ناهز 14 بالمئة عما كان عليه في عام 2022.

بطبيعة الحال كل دولة على هذه المعمورة من حقها امتلاك القوة والردع وحماية وجودها وأراضيها، كما هو حال محور المقاومة في صراعه مع الكيان الإسرائيلي، ولكن ألا يتم استثمار ذلك لتحقيق مصالح دولة ثالثة، فالعقل الياباني والعزيمة التي يمتلكها هذا الشعب لا يمكن أن ينساها التاريخ وخاصة في التصدي للغزو الأميركي واستهداف أسطوله في بيرل هاربر، وهو المشهد الذي مازال مخلداً في العقل البشري، لذلك عليهم أن ينتبهوا كي لا يتحولوا إلى دول خليج ثانية من حيث دفع الأتاوات في شراء الأسلحة والانخراط في أزمات إقليمية لمصلحة قوى دولية ليس لهم فيها ناقة ولا جمل.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock