الخبز قوتُ وجدانِ الشعوب على مرِّ العصور وفي الأدب والأمثال الشعبية
الحروب تأتي كما ترحل، فيها كل الانكسارات والأهوال الضاربة بالعقول والبالغة بأشد أثر بالنفوس، وكلّها لن تُنسى إلا بإرادة ربانيّة، كما ولن تمرّ أزماتها المتنوعة مرور الكرام، فرواسبها الاقتصادية تطحن الشعوب وترهق أنفاسهم بكسب قوتهم. واليوم نحن في وطننا الغالي سوريتنا، نعاني من تبعات الأزمة والتي تحتاج آثارها لهمّة جبارة وحقيقية كي نتجاوزها، وخاصة بأننا لا نرتاح من مطبّ إلا لنقع بعده بآخر، فبين الخدمات الأساسية من كهرباء وبنزين ومازوت، يقع رغيف الخبز في ورطات التسويق والجودة والتوزيع. لنقف عند رغيف الخبز، أو ما تجدر تسميته بروح الشعوب. فهذه المادة الغذائية مهما تغيرت وتطورت الأنماط أو الأهواء والمناخات والطقوس والأفكار والجغرافيا، يبقى للطحين بعجنه مع القليل من الماء والخمير وليُشوى بالنار، مورداً ملازما للمائدة بجانب المأكولات في وجباتها المتعددة، إذا مهما تطورت الشعوب تبقى مكونات الخبز ثابتة وأساسية، وما يأتي يكون مجرد إضافات.
الخبز في الأمثلة الشعبية
كثرت الأمثال التي تتحدث عن الخبز، ليس في العربية فقط، بل في العالمية أيضا، ومن هذه الأمثال سنورد لكم بعض المختارات، وسنبدأ من روما القديمة فلقد حظي فيها الخبّاز بمكانة مرموقة، وبنظر الرومان بأن الشخص البارع في إعداد الخبز، يصلح لتمثيل الشعب في مجلس الشيوخ. أما الفرنسيون فيصفون صعوبة أيامهم بالقول”كان يوماً طويلاً رتيباً، كـيوم بلا خبز”. كما يذهب إلى ذلك الروس الذين وجدوا أنَّ “الجنّة هناك حيثُ يوجد الخبز”، وأيضا في الموروث الشعبي الروسي إن أي شقاق أو شجار بين اثنين سيتلاشى: “إذا تشارك أسوأ الأعداء الخبز والملح فلسوف يتصالحون يوما ما”.
ومن أمثالنا الشعبية السورية والعربية عن الخبز نورد لكم:
خبزة وجبنة وسندة بحيطة ولا خاروف من وراه عيطة. الخبز الحاف بيعرّض الكتاف. خبز الرجال عالرجال دين… وعالأنذال صدقة. الخبز والماء أكل العلماء. خبزنا أبيض من خبزكن… قال كذبونا برغيف. خبز ولبن عافية ع البدن. أعط الخباز خبزه حتى لو أكل نصه. وأخيرا يقول المثل المصري “الخبز أب والماء أم”. وأخيرا هنا قد رأت الحكم الشعبية العربية أن الوفاء والثقة يتعززان بالخبز والملح، فيقول العرب: “بيننا خبز وملح”.
الخبز في الشعر والأدب
أيقن أهل الفكر والأدب بساطة الخبز وحساسية مكانته لدى الشعوب، لكون رمزيته تأتي من الرابط الوجداني العميق والذي تراكم عبر التاريخ، وعبرت عنه الشعوب ليس فقط بالأمثال الشعبية بل أيضا بالكثير من الأعمال الأدبية والشعرية في كل أنحاء العالم بإجماع إبداعي أدبي، فرغيف الخبز يختزل الحياة والموت، الحب والكراهية، الثورات والسياسات، وغيره الكثير من المضامين الجوهرية، ففي صوره هذه المتباينة والمتنوعة نجد الكثير من الشعراء حول العالم تغنوا بقصائدهم ودواوينهم بالرغيف، وسنقف عند القليل جدا منها، بقصائد محمود درويش الذي بنظر أهل الاختصاص هو أكثر الشعراء الذين استخدموا رمزية القمح والخبز في شعره، فمن ديوان أرى ما أريد/1990م.. نقرأ:
“أرى ما أريدُ من الفجرِ في الفجر… إني أَرى
شعوبًا تُفتِّشُ عن خبزها بين خبز الشعوبْ
هو الخبزُ، يَنْسُلُنا من حرير النعاس، ومن قُطْن أَحلامنا
أَمِنْ حَبَّة القمح يبزغُ فجر الحياة.. وفجرُ الحروبْ؟ “.
وأيضًا من نفس الديوان … في الهدهد يقول درويش:
“في حبَّة القمح التقينَا، وافترقنَا في الرغيف وفي المسيرِ
مَنْ نحنُ في هذا النشيدِ لنَسقُفَ الصحراءَ بالمطر الغزيرِ؟
مَنْ نحنُ في هذا النشيدِ لنُعتِقَ الأحياءَ من أَسر القبورِ؟”.
و أيضا نذكر: عن الصمود، من ديوان أوراق الزيتون، 1964
“إنَّا نحبُّ الوردَ
لكنَّا نحبُّ القمحَ أكثر
ونحبُّ عطرَ الورد
لكن السنابل منه أطهر”.
وأخيرا نذكر قصيدة محمود درويش الشهيرة “إلى أمي”:
“أحنُّ إلى خبز أمي / وقهوة أمي / ولمسة أمي”.
(إلى أمي، من ديوان عاشق من فلسطين، 1966).
الوطـن – سوسن صيداوي