مقالات وآراء

الموهبة كعود الكبريت

بقلم: حسن م. يوسف

أحسب أن الطبيعة تعبر لنا عن ذكائها عبر الصدفة! فالصدفة كانت وراء اكتشاف القهوة والتصوير الضوئي وكثير من الأشياء التي يستحيل علينا الآن تصور الحياة من دونها. وقد نبهتني أمي الطبيعة عبر صدفة غريبة، أنه ثمة عيد للمخترع العالمي يحتفل به في مثل هذه الأيام، في التاسع من تشرين الثاني من كل عام.
لا يرتبط يوم المخترع العالمي بتاريخ مولد ليوناردو دافنشي ولا أرخميدس ولا توماس أديسون ولا نيكولاس تسلا، بل يرتبط بتاريخ مولد ممثلة ومخترعة أميركية من أصل نمساوي تدعى هايدي لامار، اخترعت التقنية التي تعتمد عليها شبكات الواي فاي حالياً.
غير أني لن أتحدث في مناسبة يوم المخترع العالمي هذه، عن هايدي لامار بل سأحكي لكم بأسلوبي قصة العبقري توماس أديسون لما تحتويه من أبعاد إنسانية مؤثرة ودلالات فكرية عظيمة.
في سنة 1837 هرب الناشط السياسي صامويل أديسون وزوجته المعلمة نانسي إليوت من كندا بسبب مشاركته في ثورة ماكنزي الفاشلة. وقد استقرت الأسرة بعد هربها من كندا في مدينة ميلانو بولاية أوهايو.
في عام 1847 ولد توماس ألفا أديسون وكان الولد الأصغر بين سبعة أشقاء. في عمر مبكر عانى توماس من مشاكل في السمع، وكان واسع الخيال، دائم الشرود، كثير الأسئلة. وبسبب هذه الصفات صنفه أستاذه بين التلاميذ الكسالى ووصفه بأنه مشاغب وملول.
في الثامنة من عمره أبلغه أستاذه بعدم المجيء إلى المدرسة في اليوم التالي، وأعطاه رسالة كي يقوم بتسليمها لوالديه. قرأت والدة توماس أديسون الرسالة بينما وقف هو يراقبها. وعندما انتهت سألها قائلاً “ماذا كتب المعلم في الرسالة؟”
أجابته والدموع في عينيها إن المعلم يقول: “ابنك عبقري، وهذه المدرسة متواضعة جداً بالنسبة لقدراته، وليس لدينا معلمون جيدون لتعليمه، من فضلك علميه في المنزل”.
ارتبك توماس أديسون لكن أمه عانقته وقالت له مطمئنة، إنها هي شخصياً ستهتم بتعليمه بدءاً من ذلك اليوم. وهذا ما كان.
تفتحت عبقرية أديسون على يدي أمه باكراً، ففي الخامسة عشرة من عمره أصبح خبيراً في التلغراف وفي السادسة عشرة سجل أول اختراع باسمه وهو عبارة عن “مكرر آلي ينقل إشارات التلغراف بين محطات مختلفة”، ومنذ ذلك الوقت لم يتوقف عن الإبداع حتى وصل عدد اختراعاته في آخر حياته إلى ألف وثلاثة وتسعين اختراعاً، أشهرها المصباح الكهربائي والفونوغراف ومولد الكهرباء وكاميرا التصوير السينمائي. كما قام بإنشاء أربع عشرة شركة من بينها “جنرال إلكتريك” التي ما تزال إحدى أكبر الشركات المساهمة العامة في العالم.
عندما توفيت والدة أديسون عام 1871، كان هو قد أصبح مخترعاً شهيراً، وبعد سنوات من موت والدته عثر بالصدفة على الرسالة التي أعطاه إياها المعلم في آخر يوم له في المدرسة، وقد ذهل عندما وجد أن المعلم قد كتب في رسالته: “ابنكم مريض عقلياً ولا يمكننا السماح له بالمجيء إلى المدرسة بعد الآن”.
يقال إن أديسون بكى عندما قرأ تلك الرسالة، وقد كتب عنها في مذكراته قائلاً: “توماس ألفا أديسون كان طفلاً مريضاً عقلياً، ولكن بفضل أم بطلة أصبح عبقري القرن”.
لقد أثبتت لي تجاربي وقراءاتي أن الموهبة تشبه عود الكبريت، فهي في مراحلها الأولى، ضعيفة يمكن لنسمة أن تطفئها، لكنها إذا ما تجاوزت هشاشة البداية فإنها تتكشف عن احتمالات قوة لا حدود لها. فمن الممكن أن نشعل بعود الكبريت ناراً عظيمة تقوى وتمتد إذا ما خدمها صاحبها وغذاها بحطب القراءة والتفكير، لكن عود الكبريت محكوم بعمره القصير وإذا ما انطفأ فمن النادر أن يشتعل مجدداً.
شيء آخر تؤكده حكاية أديسون، هو أن إيمان الأم بمواهب ابنها يصنع المعجزات، فالأم هي وكيل الله على الأرض، منها يبدأ البناء وعليها يرتكز المستقبل.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock