بهدوء عن المصالحة التركية السورية.. هل نضجت المتغيرات الإقليمية والدولية لتحقيقها؟
فراس عزيز ديب
من جديد، ينجح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بسرقة الأضواء من الأحداث التي تضرب هذا العالم الملتهب عندما تحدث عن احتمالية اللقاء بينه وبين الرئيس بشار الأسد لوضع حد لقطيعة في العلاقات مستمرة منذ أكثر منذ عقد من الزمن، أردوغان ألهب بتصريحاته الشمال السوري المحتل من الجماعات الإرهابية على طول الشريط الحدودي من «عين ديوار» شرقاً حتى «راجو» غرباً، كل حسب انتمائه وولائه، فالجماعات الإرهابية التي كبرت وترعرعت في حضن التركي عندما ظنت بأن السيطرة على البلدان يمكن أن تتحقق عبر التلويح بورقة الإرهاب، رأت في هذا التقارب بداية لنهايتها لتبدأ الاشتباكات بين الفصائل الإرهابية نفسها بين مؤيد للموقف التركي ورافضٍ له، وصولاً لاعتداءاتٍ شنها مواطنون أتراك على السوريين وممتلكاتهم في بعض المدن التركية، أما مثيلاتها التي كبرت وترعرعت في حضن الأميركي فهي كذلك الأمر، ترى أن هذا التقارب يستهدفها وينهي طموحاتها الانفصالية إلى غير رجعة، علماً أنها فوتت الكثير من الفرص التي أتاحتها القيادة السورية باعتبارها جزءاً من أي حل مستقبلي بما يضمن السيادة السورية ووحدة أراضيها، وهو باب مازال مفتوحاً لعلهم يهتدون، لكنهم وإلى اليوم، لم يتجاهلوا هذه الدعوات فحسب، بل كانوا إلى حد بعيد ذريعة استخدمها الأتراك للسيطرة على الكثير من المناطق كما هي الحال في «عفرين» شمال حلب بعد عدوان «غصن الزيتون».
في الواقع، هي ليست المرة الأولى التي يكثر فيها الحديث عن دخول المصالحة السورية- التركية مراحل متقدمة كما حدث قبل ثماني سنوات بالضبط، يومها تجاوزت الفكرة مسألة التحليل عندما وصلت الحال عند بعض الأقلام لاختراع سيناريوهات اللقاء بما في ذلك مكان اللقاء وزمانه، لكنها بقيت يومها مجرد هرطقات إعلامية لم تتبن التعقيب عليها أي جهة رسمية سورية كانت أم تركية، اليوم يبدو الحال مختلفاً عندما يخرج الحديث إلى العلن بهذه الطريقة من الرئيس التركي مباشرةً ولمرتين خلال أسبوع واحد، لم يكتف معها بالحديث عن الأمنيات بل أتبعها بالوعد والوعيد لكل من ينتقد أو يفكر بالانتقام من المواقف التركية المستجدة، فهل ما يجري هو تكرار لما جرى قبل سنوات أم إن خلف الأكمة ما خلفها؟
للإجابة عن هذا السؤال دعونا نعد بالذاكرة إلى مطلع حزيران من العام الماضي عندما قرر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نقل رئيس المخابرات التركية هاكان فيدان من العمل العسكري والأمني، وهو ابن المؤسسة العسكرية، إلى العمل الدبلوماسي عندما قام بتعيينه وزيراً للخارجية، ربما كانت كلمة السر لتبدل جوهري ما في الموقف التركي قد بدأت من هنا، فالرجل القوي الذي تصادف وصوله إلى قيادة المخابرات التركية مع بداية انطلاق «الربيع العربي»، يبدو شاهداً على فترة هي الأعقد في تاريخ الشرق الأوسط وبمنصب جعله يتمتع باطلاع مباشر على مسار تشكل وتنامي التنظيمات الإرهابية في الشمال السوري، وبالوقت ذاته أمّن له شبكةَعلاقات قوية مع الدول الفاعلة في المنطقة كروسيا والمملكة العربية السعودية وحتى الولايات المتحدة نفسها، والأهم من كل ذلك حافظ الرجل على علاقات متوازنة مع الجانب السوري ممثلاً برئيس مكتب الأمن الوطني حينها اللواء علي مملوك، أدت لعقد اجتماعات عدة بهدف صياغة اتفاقيات جديدة مستنسخة من اتفاق أضنة، كان آخرها الاجتماع الذي تم عقده مطلع العام 2020 برعاية روسية، يومها بدت تسريبات نتائج الاجتماع منطقية، وتفهم كل طرف مطالب الطرف الآخر بما فيها المطلب السوري الأهم المتمثل بانسحاب القوات التركية من الأراضي السورية والتوقف عن دعم التنظيمات الإرهابية، أما الرعاية الروسية للاجتماع فأعطت المزيد من الثقة باقتراب الوصول إلى الحل، لكن مع عودة فيدان إلى تركيا هناك من انقلب على هذه التفاهمات وأعاد الأمور إلى نقطة الصفر، ليبدأ الجيش العربي السوري وبمساعدة القوات الروسية معركة تحرير سراقب وخان شيخون، هذه التذكرة تبدو ضرورية لفهم أحد أهم المتغيرات التي قد تجعلنا نتعاطى مع تصريحات الرئيس التركي بالكثير من الجدية، أي انتقال ملف العلاقة مع سورية إلى مسؤول يعرف تماماً أن العمق الإستراتيجي المتبادل على طرفي الحدود هو صمام الأمان للبلدين والشعبين!
من جهةٍ ثانية، تبدو عودة الحديث عن المصالحة السورية- التركية استكمالاً للانفتاح العربي على سورية، الذي بدأ مع عودة سورية إلى الجامعة العربية وحضور الرئيس بشار الأسد القمة العربية في جدة العام الماضي وعودة معظم سفراء الدول العربية الفاعلة للعمل من قلب العاصمة دمشق، هذا الانفتاح لم يهدف فقط إلى تفعيل البعد الدبلوماسي في العلاقة مع دمشق، لكنه بالسياق ذاته هدف إلى إنهاء القطيعة العربية- العربية أو العربية- التركية، وفعلياً تم إنجاز كل المصالحات ولم يبق إلا المصالحة القطرية- السورية التي تبدو نتيجة منطقية للمصالحة السورية- التركية.
كذلك الأمر فإن ما هدف إليه هذا الانفتاح إطفاء البؤر الساخنة في المنطقة بما يحقق الوصول إلى الأمن الذي يطمح إليه الجميع بعيداً عن التهديدات الإرهابية وبعيداً عن سياسة التشفي بضرب الاستقرار في هذا البلد أو ذاك.
نستطيع القول هنا إن هذا المطلب ليس عربياً فحسب، لكنه عابر لجغرافيا المنطقة تحديداً على الضفة الثانية للبحر الأبيض المتوسط حيث خط عبور اللاجئين لا يتوقف، إذ لم تعد هذه المشكلة قابلة للترحيل أو الاستثمار تحت أي ذريعة، لكن إنهاء هذا الملف يتطلب من القادة الأوروبيين الكثير من «التضحية»، كان من الممكن سابقاً أن يُحل الأمر بالتوقف عن سياسة التآمر على نظام الحكم في سورية، وكان من الممكن حلها عبر المزيد من العقلانية لمنع وصول اليمين المتطرف إلى الحكم، اليوم تبدو أوروبا مضطرة للتعامل مع كل ذلك وأكثر لأنها ببساطة أساءت التقدير منذ البداية، فحلم إسقاط «النظام السوري» لم يعد يراود إلا أبي دجانة الكازاخستاني، أما اليمين المتطرف فبات قاب قوسين أو أدنى من حكم أوروبا بخطابٍ واضح لا جدال فيه، فلن يتم التهاون بما يتعلق بملفات اللجوء العالقة أو إمكانية ترحيل كل لاجئ تثبت لنا المعلومات بأنه ينتمي إلى منطقة آمنة، أو إرساله ليحاكم في بلده إن ثبتت عليه تهم الإرهاب المادي أو المعنوي، لكن هذا الكلام لا يقتصر تطبيقه على قرارات الدول الأوروبية، بل هو بحاجة إلى تعاون مع البلد الأم، كيف سترحلونه إلى سورية من دون عودة العلاقات الدبلوماسية؟! من قال لكم إن سورية هي جمعية خيرية تحديداً بعد ما جنته عليها سياساتكم من دمارٍ وخراب، هل تظنون أن الأجهزة الأمنية السورية ستتعاطى مع رغباتكم من دون الأخذ بالمصلحة العليا للشعب السوري؟
إذاً تبدو الظروف الحالية وفق هذه المعطيات مهيأة لحدوث مصالحة تركية- سورية لكن كيف نقرأ هذا الصمت السوري؟
في الحقيقة لا يبدو أن التعاطي الرسمي السوري هو في إطار الصمت، مع التذكير هنا أن الدبلوماسية السورية هي خير من يتعب خصومه بإجادة الصمت عندما لا ترى أخباراً تستحق التعقيب عليها، هم ردوا على ما حكي عن اجتماعات بين الجانبين التركي والسوري بالنفي لأن الكلام هنا عن وقائع غير موجودة، أما فيما يتعلق بأمنيات أردوغان فلا أحد بإمكانه نفي أو تأكيد أمنيات الآخرين، ومع ذلك ربما هناك «دعسة ناقصة» في كلام أردوغان أو أمنياته لا فرق، عندما تحدث قبل أمس عن «دعوة الرئيس بشار الأسد إلى تركيا» لأنه يدرك قبل غيره أن الاجتماع الأول لن يكون على الأراضي التركية، لكن عدا ذلك فكل ما قاله أردوغان مستذكراً علاقات الصداقة بين الطرفين وحتمية الجغرافيا والتاريخ هو كلام مهم، بل كلام قالته القيادة السورية نفسها وكررته مراراً وتكراراً تحديداً بما يتعلق بالعلاقة الأخوية مع الشعب التركي، لكن الواقع يقول إن هناك قوات تركية تحتل أراضي سورية وبمجرد خروجها أو الاتفاق على ضمانات خروجها يجعل باقي الملفات بالكامل سهلة من دون تعقيد فماذا ينتظرنا؟
منذ العام 2016 وحتى اليوم تغير الكثير في سياق السياسة الدولية لكن الثابت الوحيد كانت ولا تزال هي السياسة السورية التي لن توفر جهداً لاستعادة العلاقات الطيبة مع محيطها لأنها أساساً لم تكن سبباً في قطع هذه العلاقات، وصولاً إلى الهدف الأسمى والأهم وهو إعادة الأمن والأمان وتوفير البيئة الآمنة اقتصادياً واجتماعياً لعودة اللاجئين السوريين إلى بلدهم، إن كان هذا الأمر بالمصالحة التركية السورية أو غيرها، لأن أبواب دمشق مفتوحة دائماً لكل من يدخلها بمحبة واحترام.
كاتب سوري مقيم في فرنسا