بين تحييد المذهبية والرهان على الشارع العربي.. من يحمي إسرائيل من نفسها؟
بقلم: فراس عزيز ديب
وتستمر حرب الإبادةِ المفتوحة التي يشنها الكيان الصهيوني على المدنيين في غزة وتستمر معها الكثير من الأسئلة التي عادةً ما تفرزها حروب كهذه، بعضها قد يبدو هامشياً لكنه مؤلم كمثال: أين شيوخ الفتنة الذين دعوا للجهاد في سورية وأكدوا بأن الملائكة حسبَ مناماتهم شاهدوها تقاتل مع «أبو البراء الأوزبكي» لقلب «النظام» في سورية؟!
على المقلبِ الآخر، أين أولئكَ الذين صدعوا رؤوسنا بنظريةِ أن أوروبا بسموِّها الأخلاقي قدمت نفسها كحامية للمسيحيين في هذا الشرق، وأن حملات التهجير وقبول اللجوء هدفهُ إنساني وليسَ تفريغ هذا الشرق من مسيحييه؟! لماذا صمتُوا عنِ استهداف كنيسة القديس بروفيريوس في غزة والتي لجأ إليها مدنيون مع أطفالهم ونسائهم؟! أم أن الغرب تجاوزَ بعض التنظيمات الإرهابية بنظرتهِ الطائفية والمذهبية لكونِ الكنيسة المستهدَفة لا تتبع للكنيسة الكاثوليكية؟!
بالانتقالِ من الأسئلةِ الهامشية إلى الأسئلة الجوهرية يبرز الكثير من الأسئلة أهمها: ما هي نهاية هذه المعركة؟ هل فعلياً أن ما يجري يمثل حرباً عبثية من الطرفين من دون أُفق؟ إذ لا يمكن أن يكون هدف المقاومة الفلسطينية فقط هو ما تم إنجازه من مسحٍ لكرامةِ العدو بأحذية المقاتلين خلال الأيام الأولى للملحمة، ثم الانكفاء لتلقي الردود والدمار، بالسياق ذاته لا يمكن أن يكون طموح الكيان الصهيوني هو فقط التدمير لمجردِ التدمير بذريعة الثأر لكرامته، لأن استعادة الكرامة مرتبط حكماً بالإنجازات على الأرض وهو ما لم يتحقق، بل ويبدو بأن العدو يأخذ وقته لإدراكهِ بأن أي انتكاسةٍ جديدة ستعني حكماً تضعضعاً غير مسبوق في الجبهةِ الداخلية، ولأن الحسابات تبدو دقيقة أكثر مما يتصور البعض يبدو قرار مستقبل العملية أبعد من مجرد قراراتٍ لمجلس الحرب الصهيوني، هو مرتبط حكماً بالقرار الأميركي لتقودنا هذهِ المقاربة نحوَ السؤالٍ الأهم: ما هو دور الولايات المتحدة في كل ما يجري؟
بعيداً عن الأكاذيب الموجهة التي يلقيها الإعلام الغربي حول حقيقةِ ما يجري في ملحمةِ «طوفان الأقصى»، إلا أن نقاش حقيقةَ الدور الأميركي بدا أكثر واقعية ورزانة، ليسَ فقط لأنه باتَ بوصلة للمواقف الأوروبية التي تبدو شبهَ عاجزة عن اتخاذ مواقف مغايرة حتى بأبسطِ التفاصيل، بل لأن الموقف الأميركي يشكل بالنسبةِ لهم تيرموستات الردود الإسرائيلية، ربما أن أحد أصدق العبارات التي كرَّرها الإعلام الفرنسي بعدَ زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن للكيان الصهيوني وإعلانهِ الدعم المفتوح لجرائمِ الكيان بأن بايدن لم يذهب لينقذ إسرائيل من ضربات المقاومة، لكنه ذهب لينقذ إسرائيل من نفسها!
هذه العبارة تحتاج للكثير من التدوير لكي ندرك مدى أهميتها ولعل هذا التدوير يخرج في إطار الإجابة عن سؤالين أساسيين: السؤال الأول: هل إسرائيل فعلياً في خطر؟
في الحروب علينا تجاهل مسار المعارك والتركيز على بعض التفاصيل التي تعطينا الكثير من الأجوبة غير المباشرة، بهذا السياق وبعدَ أن كانت معركةَ وجودِ الكيان الصهيوني في قلب الأمة العربية قد شارفت على الانتهاء من وجهةِ نظرِ من يحميه، أتت معركة «طوفان الأقصى» لتبدل الكثير من المعطيات فكيف ذلك؟
عاشَ الشارع العربي خلال العقدين الأخيرين من الزمن وتحديداً بعد إعدام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين بطريقة طائفية معيبة، مرحلة الإشباع الطائفي والمذهبي، هذا الإشباع الطائفي كنا نتلقاه كجرعاتٍ يومية حتى بالبرامج الترفيهية، وصولاً إلى تعويم مصطلح تشكيل «ناتو سني» بوجهِ التمدد الشيعي، كان الهدف من كل ذلك تجاهل المشكلة الأهم في هذا الشرق والدخول بمشاكلَ ثانوية، بالسياق ذاته شكلت فكرة التطبيع مع الكيان الصهيوني أحد أهم الغزوات الفكرية التي استهدفت أولاً وأخيراً الوعي العربي، ربما أن الفائدة الأهم التي جنيناها من هذا التطبيع إن جازَ التعبير هو إثبات أن هذا الكيان لا عهدَ له ولا مواثيق وكمثالٍ بسيط إن كان هناك من يرى بالمقاومة كمشاركٍ في الدمار والخراب الذي لحقَ بغزة، طيب ماذا عن المجازر في الضفة؟
دائماً ما كان تعويم المذهبية يصطدم بآخر القلاع التي واجهت العالم من أجلهِ وهي سورية، سياسي فرنسي عتيد قالَ يوماً بعدَ أن غادرَ منصبه: «لا أفهم لماذا علينا محاربةَ نظامٍ هو أقرب للعلمانية واستبداله بنظام أقرب لأنظمة القرون الوسطى»، كان يكفي أن يخرج الرئيس بشار الأسد ليعلن قبول عروض إنهاء الحرب مقابل دستورٍ يضمن المحاصصة المذهبية على طريقة دستور المأفون بول بريمر في العراق، لكن ما يتم تجاهله هو أن تعويم المذهبية كدستور لم يستهدف سورية كدولة بل كموقف، من هنا كان يبدأ شيطنة هذهِ المقاومة أو تلك، فحزب اللـه يسعى لتشييع المنطقة أما حماس والجهاد فهي أذرع للقاعدة، من الواضح أن المعركة هنا لم تكن سهلة لكن رهان الرئيس الأسد كان في حديثهِ الدائم على الشارع العربي الذي لن ينسى بوصلته، أو عندما كان يتحدث عن دعم حماس كمقاومة هو الأساس في التعاطي معها بمعزلٍ عن المرجعية التي تستند إليها، ربما كان الرهان في مكانه، وهذه التفاصيل تمر من دون أن يضوّي عليها أحد، فالأحداث الأخيرة غيرت الكثير من المفاهيم في الشارع العربي، اليوم عندما ترى تظاهرات في شوارع القاهرة تهتف للأمين العام لحزب اللـه وتدعوه بالحبيب وتطلب منه ضرب «تل أبيب»، أنت أمام تحول لا يمكن إنكاره، لأنه أعاد فكرة الصراع العربي الصهيوني إلى واجهة الأولويات والثوابت، بل ويمكننا القول إن سلاح المذهبية يحتضر تحديداً بعد ما جرته على هذه المنطقة من ويلات ساهم فيها الجميع من دون استثناء، بمعنى آخر: إذا كان أخطر ما عانته الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني أن يكون التطبيع شعبياً عبرَ الصراع المذهبي، فإن أخطر ما يهدد وجود الكيان أن تستعيد الشعوب بوصلتها المقاومة بمعزل عن مرجعية هذه المقاومة يسارية كانت أم إسلامية أو عروبية.
السؤال الثاني: ماذا يمكن للولايات المتحدة أن تفعل؟ وربما أن الولايات المتحدة أكثر من يعرف بأن الإفراط في القوة لن يأتي بنتيجة، هي تدرك ذلك لكنها لا تعترف به، فبماذا أفادتها القوة في فيتنام وأفغانستان والعراق؟
بالسياق ذاته تدرك الولايات المتحدة أن بقاء الكيان الصهيوني مهدد فعلياً إن طالَ أمد المعركة، فلا الجبهة الداخلية قادرة على الاحتمال ولا فكرة وجود الكيان كمنتجع لأثرياء الصهيونية تغري بالمجازفة، بعكس باقي الأطراف المنخرطة في المعركة بشكلٍ مباشر أو غير مباشر التي لم يعد لديها ما تخسره، وهذا يقودنا لفرضيةِ أن الولايات المتحدة، لا رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو، هي من يقود المفاوضات بما يضمن عدم اتساع رقعة المواجهة، فكانت بادرة حسن النية التي أقرها الأميركي من دون رضا إسرائيلي تتمثل بدخول مساعدات مقابل الإفراج عن رهينتين أميركيتين.
بالسياق ذاته تعمل الولايات المتحدة فعلياً على منع المغامرة البرية للكيان الصهيوني لأنها تدرك أن العواقب ستكون وخيمة وتدرك أنها لا تريد أن تتبع المغامرات غير المحسوبة لبنيامين نتنياهو الذي يدفع نحو الدخول البري لتحقيق هدفين: الهدف الأول، إطالة أمد الحرب ما يؤخر تعرضهُ للمحاكمة التي تنتظره على طريقةِ أيهود أولمرت.
الهدف الثاني، الدفع بالولايات المتحدة نحو الانخراط مباشرة في المعركة في حال نفَّذت باقي قوى المقاومة تهديداتها بدخول المعركة، مواقف نتنياهو هذه قد تدفع للكثير من التغيرات في مسار المعركة فماذا ينتظرنا؟
من الواضحِ أن ما قبل هذه المعركة ليس كما بعدها، على الجانب الأول باتَ كل داعمي الكيان يدركون بأن تأخر الحل سيحمل المزيد من الدمار، فعليهم حكماً الاقتناع بأن الدفعَ بالحلول العادلة هو الفيصل، لا تهجير الفلسطينيين ولا غيره، على الطرف المقابل يجب النظر بهدوءٍ للكثير من الشعارات والتعاطي بواقعية، أين سنذهب بكل هؤلاء الإسرائيليين هل سنقوم برميهم في البحر؟ ماذا عن اليهود الذين خرجوا ضد الحرب في غزة وطالبوا قادة الكيان التوقف عن قتل الأبرياء باسمهم؟
حتى يبان الخيط الأبيض من الأسود ستبقى كلمة الفصل للميدان، أما وإن باب المفاوضات سيكون مفتوحاً على الكثير من المبادرات فإن مرور هذه المعركة دونما استثمارها بالشكلِ الأمثل عسكرياً أو سياسياً سيعني حكماً ضياع بهجة ما تحقق، الفرص لا تأتي دائماً على طبقٍ من هروب نتنياهو نحو الأمام وبمعنى آخر: أرجوكم.. لا تسمحوا للأميركيين إنقاذ إسرائيل من نفسها!