بين قمة «بريكس» وقمة «الدول العشرين».. ماذا عن قممِ الفقراء في هذا العالم؟
فراس عزيز ديب
عندما يتحدث الاقتصاد تصمُتُ السياسة، مقاربة يُدركها الأغنياء ما يجعلهم يزدادون غنى وسطوة حتى باتوا يتحكمونَ بكلِّ بشيء بما فيها أحلام من باتت أحلامهم رجسٌ من عملِ الشيطان، مقاربة يتجاهلها الفقراء لدرجةٍ باتوا فيها يظنون أن الدول عبارة عن جمعياتٍ خيرية، والسياسة هي مبادئ وأخلاق، ما أقبحَ الأخلاق عندما ترتبط بالسياسة التي يظن البعض أنها «فن الممكن» وفي الحقيقة هي فن ابتزاز الآخر بمعزلٍ عن هو هذا الآخر، صديق، حليف، محايد، في الخلاصة عندما يجتمع الأغنياء يجلس الفقراء بانتظار أن تمطر عليهم رُطباً من السماء، بانتظار المخلِّص الآتي من عند الرب، لكن الأحلام في مكان والوقائع في مكانٍ آخر فما الجديد؟
افتتحت يوم أمس قمة العشرين التي تضم الدول التي تمتلك أقوى الاقتصادات في العالم في ظلِّ غياب الرئيسين الصيني شي جين بينغ والروسي فلاديمير بوتين، غيابٌ كان متوقعاً في ظلِّ التوترات المتصاعدة التي تعيشها مناطق ما يسمى «تحت الحزام» لكلا الدولتين، إن كان لروسيا وما يعنيهِ دعم الناتو المباشر لأوكرانيا أو العبث الأميركي في تايوان لاستفزازِ الصين، لكنهُ بالوقت ذاته توترٌ خرجَ بالحد الأدنى عندما لم تغِب وفود هذهِ الدول عن الاجتماعات، أما ما لم يكن متوقعاً فهو حضور الرئيس الأميركي جو بايدن شخصيَّاً وهو الذي يواجهُ حملةً تصاعدية تهدفُ إلى خلعهِ قبل انتهاء ولايتهِ أو منعهِ من الترشح بالحدِّ الأدنى، بسبب ما يعانيه من أزماتٍ صحية، وما يعنيه هذا الحضور من تأثير على قرارات القمة، بالسياق ذاته فإن ما يميز القمة الحالية هو انعقادها في الهند، الدولة التي تقترب من صدارةِ الدول الأكثر سكاناً في العالم والتي تجمع نقائضَ عدة أهمها الفقر والغنى في آن معاً، إلا أنها تملك ثابتاً رئيساً بالقدرة على التواصلِ مع الجميع بما فيها النقائض الدولية، وهذا ما عبر عنهُ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وهو قلَّ ما يصدق في تصريحاتهِ عندما قال: «إن الهند تتمتع بمرونةٍ كافية لتجمعَ كل التناقضات على طاولة واحدة».
أخيراً، فإن أحد أهم ميزات هذهِ القمة أنها جاءت بعدَ قمةِ دول «بريكس» واتخاذها قراراً بضمِّ بعض الدول على طريقةِ ضم النقائض منها تلكَ التي تُعاني اقتصادياً كإيران ومصر، أو التي تتمتع باستقرارٍ سياسي واقتصادي كالمملكة العربية السعودية، يومها بدأ الحديث كثيراً عن مستقبل دول «بريكس» وقدرة هذه المنظمة على خلقِ تكتلٍ اقتصادي يواجه التكتلات الاقتصادية التقليدية كقمة العشرين أو السبع الكبرى، لكن كما جرت العادة فإن الكثير من التحليلات تأخذهــا العواطف في توصيف توسع دول «بريكــس» وما يعنيــهِ هــذا التوسع في إطار الصراع الدولي غير العسكري، هذه التناقضات يمكننا اختصارها بالنقـــاط التاليــة:
أولاً: إن تقاطعات الدول الحالية تُعطينا فكرة أن الدول التي تشترِك بالانضمام للمنظمتَين باتت سبعَ دولٍ هي الصين، روسيا، البرازيل، الهند، جنوب إفريقيا، المملكة العربية السعودية والأرجنتين، ما يعني ثلثَ دول منظمة العشرين، هذه المقاربة لا بد من الالتفات إليها عندما نتحدث عن قدرةِ هذه المنظمات والدول الفاعلة فيها بإحداثِ تغييراتٍ على خريطةِ الاقتصاد العالمي لمصلحة الدول الأكثر فقراً، هناك من يذهب لفرضية أن هذه النسبة تعطي مجموعة «بريكس» قوة مضاعفة في قرارات مجموعة العشرين، نظرياً هذا الكلام منطقي لكن من الناحية العملية فإن من يذهب بهذا الاتجاه يتجاهل بدهية أن فكرةَ تشكيل مجموعة العشرين كانت في الأساس لدراسة آليات الخروج من الأزمات الاقتصادية العالمية لما لهذهِ الأزمات من انعكاساتٍ على دول العالم جميعاً، القوة العسكرية وصراع السيطرة هنا لم يكن لهما دور في تشكيلِ هذه المجموعة وإلا لما جمعت كل هذه التناقضات روسيا وألمانيا، الصين والولايات المتحدة، القوة العسكرية هنا لم تلعب دوراً بتشكيل يستثني المنهزم، بل القوة الاقتصادية هي التي أجبرت المنظمة على ضم منهزمين عسكرياً كاليابان وألمانيا، أما دول «بريكس» فهي تتحدث عن تنسيق مواقف بين الدول المنضوية تحت راية المنظمة، الحديث هنا عن تكتلٍ سياسي اقتصادي أمامه عقبات كبيرة للوصول نحو فكرة «الرجل الواحد» لكن هل هذا الكلام فعلياً قابل للتطبيق؟ الجواب ليس عندي، الجواب عندَ ما تمتلكه هذه المنظمة من تناقضات.
ثانياً: هناك من يقوم بالتعاطي مع منظمةِ «بريكس» لكونها المنظمة التي ستشكلُ مستقبلاً مواجهاً للرأسماليةِ المتوحشة تمهيداً لما يسمونهُ كسرَ هيمنة الدولار، بصراحة تبدو هذه المقاربة عاطفية لدرجةٍ أنه حتى القائمين على «بريكس» لم يسمعوا بها، سفير دولة جنوب إفريقيا في المنظمة أنيل سوكلال والتي استضافت بلادهُ القمة نهاية آب الماضي قالها صراحة: «لسنا بصددِ التحدي أو إعلان حرب على دولةٍ أو عملةٍ ما، نحنُ فقط نبحث عن مصالحنا»! كلام عقلاني يتجاهله أصحاب الرؤوس الحامية لكون المعركة ضد الدولار في هذهِ الظروف الحالية هي معركة خاسرة لا يمكن الذهاب إليها بنظام مالي يجعل الدولار هو السيد، قوة التجمعات الدولية لا تحددها ما تمثله هذه الدول من تعدادٍ للسكان حتى لو كانوا نصفَ سكان العالم أو أكثر ولا المساحة التي تمثلها هذه الدول، بل ما تمتلكه هذه الدول من أرصدة مالية، ألا تتساوى بعض الشركات الأميركية الكبرى كـ«أبل» و«جنرال موتورز» بصافي أرباح يعادِل إنتاج النفط في دول الخليج العربي مجتمعة؟ الحديث الدائم عن فكرة إنهاء سيطرة الدولار وتقديمه على أنه العلاج لكل الأمراض هو نوم في العسل، ولا يكون كما يروج البعض بالاستغناء عنه بل بتشكيل نظام مالي دولي جديد يعتمد عملة جديدة بموافقة الجميع، لكن هل هذا ممكن؟
ثالثاً: ربما نحتاج فعلياً إلى إعادة توصيف بعض المصطلحات وما يقابلها، فمثلاً إن افترضنا أن الغرب يمثل اقتصادياً تلكَ الرأسمالية المتوحشة، فماذا يمثل الطرف الآخر؟ هل يمثل الاشتراكية؟ هذا ليسَ صحيحاً فكرة الاشتراكية باتت خلفنا حتى في أهم الدول التي نحترم تجاربها الاقتصادية كالصين مثلاً التي فتحت المجال واسعاً نحو رأس المال ليعطيها تلكَ الدفعة القوية مع هذا الصعود الصاروخي الذي أذهل العالم لدرجة يمكننا تسمية ما تعيشه الصين بـ«الرأسمالية الصينية» التي تدير اقتصادها بطريقة تحافظ فيها على أمنها بجميع المستويات، الأمر ذاته ينطبق على التجربة الروسية حيث ينشط رجال الأعمال الروس في جميع المستويات وهم يشكلون عماداً قوياً للاقتصاد الروسي الذي ساهم إلى حدٍّ بعيد بثبات المواقف الروسية، الفكرة التي يجب إيصالها أن الرأسمالية كنظام اقتصادي أو الليبرالية كنظام اجتماعي، كلاهما يمكنهما أن يكونا متوحشين إن لم نحسن استخدامهما، لكن بالوقت ذاته كلاهما قد يشكلا رافعاً قوياً للمجتمعات أن أحسنّا الاستفادة من إيجابياتهما وترك سلبياتهما على مبدأ أن في هذه الحياة ما من فكرةٍ سلبية بالمطلق أو إيجابية بالمطلق، فماذا ينتظرنا؟
بصراحة لن أنتظرَ أبداً البيان الختامي لاجتماعاتِ هذه المنظمة أو تلك لأنها في النهاية اجتماعات تهدف إلى إعادة تنسيقٍ يزيد من غنى الغني ويمعن في تفقير الفقراء، وهذا حقهم، لأن العلاقات بين الدول مصالح قبلَ كل شيء، وإن كانت هناك بعض التجارب التي نحترم أهدافها لكنها لا تزال بعيدة كثيراً عن فكرةِ أنها المنقذ القادم من بعيد، رأيي هذا لأني ببساطةٍ أتعاطى بالكثير من الواقعية وأضع العواطف جانباً، لن ينقذ فقراء هذا العالم إلا اجتماع هؤلاءِ الفقراء لإنقاذ أنفسهم، وإلا سيبقون بالنسبةِ للأغنياء مجردَ أرقام استُهلكت أو سيتم استهلاكها.
رحم اللـه الزعيم الليبي معمر القذافي عندما أدركَ الوجع تماماً بأن إفريقيا لن تنهض إلا باتحادها ولو اقتصادياً فماذا كانت النتيجة؟!