بين محاكمة «النظام السوري» وانتظار المفاوضات الأميركية السورية.. رسالة إلى كاترين كولونا!
فراس عزيز ديب
في عصرِ مواقعِ التواصل الاجتماعي، من الطبيعي أن ترى مراهقين يبحثونَ عن الشهرة حتى لو كانَ عبرَ «تريند التعري الجسدي»، لكن أن ترى وزيرةَ خارجيةٍ لدولةٍ بحجمِ فرنسا تتعرى فكرياً وعملياً بحثاً عن خبطةٍ دبلوماسية تجعلها تتصدر المواقع الإخبارية فهذا لا يعطيك صورة عن الأطفال الذين يقرِّرون مصيرَ هذا العالم بقدرِ ما يعطيك صورة عن الوضاعة التي وصلت إليها الدبلوماسية في دولٍ لا تزال تظن نفسها دولاً ذات وزن، هكذا ودون مقدمات أعلمَتنا وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا بأن بلادَها تؤيد محاكمة الرئيس بشار الأسد.
بواقعيةٍ تامة دعونا نعترف بأن الوزيرة محقة من وجهةِ نظرها، من منَّا مثلاً لا يطمح للصقِ التهم وتشويهِ سمعة من قامَ بتعريته؟ من قام بكشفِ حقيقةِ إنسانيتهِ المزيفة التي تتباكى على الشعوب من جهة وتسهم بحصارِها وتجويعها من جهةٍ أخرى؟ من منَّا لا يريدُ الانتقام بأي طريقةٍ لمن جعلَ سياسة هذهِ الدول أضحوكة بعدَ أن أثبتَ لكل من في قلبهِ وجل بأن الخروج إلى الفضاء الخارجي عند البعض أسهل من الخروج عن الإرث الاستعماري البغيض؟
ربما لا تحتاج هكذا تصريحات مجردَ الردّ عليها، لكن ومن باب الأمانة الصحفية علينا فعلياً أن نذكِّر هذه الوزيرة بأن هناك ملفات مهمة لا بدَّ لها أن تتعاطى معها قبل التفكير بمحاكمةِ الآخرين من بينها مراجعتها لميثاقِ الأمم المتحدة الذي يحترم سيادة الدول ويمنع عن الآخرين احتلال أراضيها وسرقةِ خيراتها أو التدخل فيها دون قرارٍ من مجلس الأمن ولكونِها تحدثت عما سمتهُ النظام الديكتاتوري فربما من الأفضل للوزيرةِ أن تلتفتِ هي وحكومتها للنقاش الداخلي المحتدم في فرنسا، هل باتت المادة 49 ـ3 من الدستور التي تستغلها الأغلبية لتمريرِ كل ما تريد من قوانين هي صورة عن الديكتاتورية العسكرية أو كما يحلو لبعض الفرنسيين بتوصيفها، صورة عن «الديكتاتورية البوتيينية!» ساخرين من وصفِ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالديكتاتور؟
كان عليها أن تسمع ما قالهُ الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي وما كتبهُ عُتاة المقال الصحفي الموزون البعيد كل البعد عن المواقف المسبقة في الصحفِ التي تصدر في بلادها بما يتعلقُ بحقيقة السعي لانضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي: هل حقاً أن الإصرار على ضم أوكرانيا للاتحاد الأوروبي هو بداية تفكك هذا الاتحاد؟
كان عليها أن تُعيدَ قراءةَ التاريخ ليس البعيد الضارب بجذورِ حرب المئة عام وهي الحرب الطائفية الأطول في التاريخ، لكننا نتحدث عن التاريخ القريب، تحديداً لحظةَ اندلاع الحرب اليوغسلافية وسطَ أوروبا عشيةَ انطلاق مشروع الوحدة الأوروبية وأن تقوم بإسقاطهِ على ما يجري اليوم بين صربيا وكوسوفو وإلى ما قد تتطور إليه الأمور هناك، من قال إن الحرب الأوكرانية إن طالت ستقف حدودها عند أوكرانيا؟ هذه الحرب قد تُعيد فتح جروح الماضي القومية والدينية، هل انتهت صلاحيةُ الإرهابيين في الدول التي ضربها الربيع العربي ما يتيح نقلهم إلى جبهةٍ جديدة بذريعةِ الدفاع عن كوسوفو؟!
هل فهمت هذه الوزيرة ربما لماذا يصر من قامَ باختيارها لهذه المهمة على فكرةِ التعاطي بهدوء مع الرئيس فلاديمير بوتين لأن إنهاء الحرب أو وقف تدحرجها لا يكون إلا بالحوار معه، عليها أن تسأل الرئيس إيمانويل ماكرون عما يمكننا تسميته «تبريد النزاعات» قبل الذهاب بعيداً بأوهامها والأهم عليها أن تطرح السؤال التالي: لماذا تصر فرنسا على التغريد خارج سربِ التفاهمات الدولية فيما يتعلق بالملف السوري؟!
دائماً ما يصل الفرنسي متأخراً، هذا الأمر ليسَ بجديد، وربما أن الوحيد الذي غرَّدَ خارج سرب هذه العادة هو الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي الذي عرفَ منذ اليوم الأول لولايتهِ بأن مفتاحَ الشرق موجودٌ في عاصمةِ الأمويين، فقررَ يومها حملَ رسالةِ الغرب بإعادة الانفتاح على دمشق بعدَ القطيعة التي تلَت اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري إلى أن حدثت الاحتجاجات في الدول العربية، لكن بذات الوقت هناك من يقدِّم صورة مختلفة للحالةِ الفرنسية الرسمية وهي تلك التي ينطبق عليها توصيف الصراع بين ما هو أمني وما هو دبلوماسي فكيف ذلك؟
في الإطار العام فإن الأجهزة الأمنية ترى المصلحة من خلالِ ما تمتلكهُ من معلوماتٍ على الأرض من دون تجميلٍ أو تعديل، من خلالِ حقائق ووقائع تجري عليها الكثير من التقاطعات التي تُتيح لها اقتراح الآليات الدبلوماسية المفترضة للتعاطي معَ هذا الملف أو ذاك لكنها لا تملك القدرة على فرضِ هذه الآليات هي تماماً أشبه بالصحفي في هذا الشرقِ البائس قد يكتب ويضع الكثير من الأفكار لكنه لا يملك القدرة على تطبيقها، أما الدبلوماسي فهو لا يستطيع أن يرى تلكَ الاقتراحات الأمنية بتلك الواقعيةِ الصادقة عندما يكون الواقع بالنسبة له يتعارض تماماً مع خطابهِ، لا يجرؤ على الانسحاب لأنه أكثر من نصفِ هزيمة ربما أن الاستثناء الوحيد في هذه القاعدة هي الولايات المتحدة الأميركية التي تعرف كيف تُدير تراجعاتها، الحالة الفرنسية لا يبدو بأنها خرجت عن هذه القاعدة ولا تريد أن تكون استثناء، مسؤول فرنسي سابق كانَ له باع طويل مع تناقضات الشرق الأوسط قالَ يوماً: لو أصغت الدبلوماسية للتقارير الاستخباراتية منذُ البداية لما تورطنا بالملف السوري إلى هذا الحد، هذهِ العبارة قد تختصر الكثير ليسَ فقط على طبيعةِ الصراع الخفي بين الطرفين لكن على إضاعة الكثير من الفرص للتحرر من هذه السياسة الساذجة، ففرنسا بدَّلت حتى الآن ثلاثَة رؤساء منذُ انطلاق لوثة «الربيع العربي» كان كل منهم يمتلك فرصة للتخلص من هذا الإرث، لكنه أصرَّ على إضاعتها، حتى لو افترضنا بأن الرئيس إيمانويل ماكرون لا يُريد الإصغاء للتقارير الأمنية التي تتحدث عن «استعادة (الرئيس بشار) الأسد لزمام المبادرة» أو تلك التي أوحت لهُ بتصريحهِ عن ضرورةِ التعاون مع الرئيس الروسي فلايمير بوتين، لأنها بالأساس تقارير وصلته عن الرئيس بشار الأسد بما معناه: «لا يمكن الحديث عن حل في سورية دون التعاون مع الأسد.. الجميع بات مقتنعاً بأن الحل يمر عبره»، لكنه حكماً يسمع ويقرأ الأخبار، فالرد على إعادة الانفتاح العربي على سورية ودخول التعاون مع التركي مراحلَ متقدمة بما فيها تسليم إرهابيين مطلوبين للدولةِ السورية، أو قيام التركي بالتخلصِ منهم عبر التصفية المباشرة ضمن التشكيل الواحد، يكون بالتعاطي الواقعي مع هكذا تغيرات ولا يكون عبر استعراضاتٍ إعلامية بادعاءِ محاكمة من سموهم «ثلاثة رموز في النظام السوري» لاتهامهم بالتواطؤ بقتلِ معارضٍ وابنه، هم يعلمون بأن هذه المحاكمة لا تعني شيئاً، أساساً من شروط التقاضي دفاع المتهم عن نفسهِ، كيف ستحصل المحكمة على دفاعِ المتهمين؟ حتى الولاية الخارجية للقضاء الفرنسي مرهونة بشروط إدارية لا يمكن تحقيقها إذن ما الهدف؟ وهذه «الولدنات» الإعلامية كيف لها أن تبني إستراتيجية دولة؟!
لكن بذات السياق هناك من يقول إن الفرنسي يعلم تماماً بأن الانفتاح على سورية بلغَ مداه وهو يعلم بأن ما يُحكى عن مفاوضات أميركية سورية تجري بوساطةٍ عُمانية ليست مجردَ كلامٍ في الهواء، هناك من يذهب أبعدَ من ذلك ليتحدث عن ظهورِ بعض نتائج هذه المفاوضات بما فيها انعقاد اجتماع «هيئة التفاوض» في المعارضة السورية الذي بدأ أمس لإعادة تشكيل معارضة تكون شريكة بحل سياسي ما قد يزيح عن كاهل الولايات المتحدة شرط انسحابها من الأراضي السورية مقابل تقدم في العملية السياسية، لكن الفرنسي لا يريد تفاوضاً مع السوريين على الطريقة الأميركية، بمعنى آخر فإن فرنسا الراغبة بالحصول على داتا المعلومات تحديداً لمن دخلَ أراضيها كلاجئ وهو يحمل فكراً متطرفاً أو لإرهابيين يحملون الجنسية الفرنسية قد يكونون موقوفين لدى السلطات السورية، وكل ما لهُ علاقة بشبكاتٍ إرهابية فككها العقل الأمني السوري، قد يكون لديها ارتباطات بجماعات في قلب أوروبا تريد ذلك من خلال تعاون أمني حالياً، قد يكون متبوعاً بانفتاح دبلوماسي، لكن هل هناك من يصدق بأن فرنسا اليوم قادرة أن تضع شروطاً؟
الجواب ليسَ عندنا، الجواب عندَ من لا يُريد قراءةَ التغيرات من حولهِ بصورةٍ واقعية أو بصورةِ الدولة والإصرار على قراءتها كجماعةٍ معارضة لا تزال فعلياً تنتظر فرج رب العالمين عبر إسقاط النظام بقرعِ الطناجر، بعدَ ما عاشته وتعيشه سورية فإنها ببساطة ليست فقط غير معنية بشروطٍ يفرضها هذا الطرف أو ذاك هي بالأساس ترى بأن مصلحةَ الجميع حيث دمشق لأنها كانت ولا تزال هي الثابت الوحيد في كل ما نعيشه من متغيرات، قالها لكم مواطن فرنسي منذ مطلع العام الحالي تعليقاً لكنكم لا تريدون الإصغاء: «الجميع سيحتاج بشار الأسد.. أتمنى ألا نتأخر».