من جديد يظهر كتاب ميشيل رامبو (عاصفة على الشرق الأوسط الكبير) في طبعة جديدة عن الهيئة العامة السورية للكتاب، ضمن مشروع وطني للترجمة بترجمة الأستاذة الدكتورة لبانة مشوح، وكان هذا الكتاب قد صدر في طبعته الأولى قبل أربع سنوات، وها هو ينشر من جديد لنفاد طبعته الأولى، وضرورة أن يكون توزيعه أعمّ وأشمل، ويضاف إلى جانب كتاب رامبو الآخر والمهم الذي ترجمته الدكتورة لبانة مشوح وصدر قبل شهرين بعنوان (حروب سورية) ليشكلا معاً وثيقتين سياسيتين فكريتين معايشتين تقومان على الدراسة والتحليل، ولا تقومان على الدعاية والإعلان لجانب على حساب آخر، لأن رامبو أخرج نفسه وكتبه من باب الانحياز، ودخل في العمق الفكري التاريخي لمشكلات الشرق الأوسط وسورية على وجه الخصوص.
الفهم والمرجعية
يقدّم ريشار لابيغيير للكتاب، ويحدد الأهمية الكبرى لرامبو الدبلوماسي والمؤلف والمتابع في الوثائق والمدونات، وريشار ليس سياسياً عربياً أو كاتباً عربياً، بل هو كاتب فرنسي قرأ الكتاب بعمق، وقبل أن يقرأ الكتاب، كان قد قرأ الوقائع والأحداث قراءة متعمقة لا قراءة آنية، وعاد بالمشكلة إلى جذورها مع انهيار الدولة العثمانية، وتشكل الدول الجديدة، وما يثير الاستغراب أن ما كتبه ريشار ورامبو يتجاهله المثقفون العرب، وربما يجهلونه! ويحزّ في الفكر ويطعنه، وليس في النفس أن يجهل أو يتجاهل مفكرون عرب! هذه الحقيقة، ليمشي واحدهم وراء غوغائية، بغض النظر عن الموقف من السلطات والفساد وغير ذلك! أليس غريباً أن ينساق من حمل اسم مفكر أو مثقف وراء غايات آنية ويتجاهل ما بحثه الغربيون المنصفون؟ «مع قدوم.. القرية الكونية، وتقنياتها الجديدة».
عقدت كلاب الحراسة الموجودة في كل مكان وزمان مشهد إيديولوجية الشرق، فباتت إدارة تلك الإيديولوجيات أحد أكبر العوائق المعرفية، فكان منهم من أعلن نهاية التاريخ، ثم نهاية الإسلام السياسي.. ويا له من تحليل فاق بغرابته كل تصور! وفي صيف 2011، تجرأ هؤلاء أنفسهم وآخرون على الكتابة قائلين: إن الجهاديين مصابون بالذعر جراء تسونامي الديمقراطية الذي يجتاح العالم العربي».
فنحن أمام باحث علمي يحلل الظواهر وجذورها وأسبابها، ومع ذلك لم يقف المثقفون العرب المعنيون بنهاية التاريخ أو نهاية الإسلام السياسي موقفاً تحليلياً، وعملوا على إنهاء وجودهم أنفسهم، وعلى إنهاء دولهم التي تحتاج منهم إلى الحماية والرعاية، وضاع كل ما درسوه وتلقوه وعرفوه في الغرب أدراج الرياح!
ولا يستطيع القارئ أن يمرّ مروراً عابراً على إشارات رامبو العميقة ابتداء من مقدمته وحتى نهاية مؤلفه الذي جاوز ثمانمئة صفحة من القطع الكبير، وأود أن أقبس من مقدمته قولاً بارعاً لم نلتفت إليه حتى بعد مرور عشر سنوات على الحرب، ومرور سنوات على صدور طبعته الأولى!
«هل أدرك كل من الإسلاميين الخارجين عن السيطرة، والأنظمة الثيوقراطية الشرعية التي سعت للسيطرة عليهم عن طريق التكفّــل بهم مادياً، إنهم أخطؤوا في حساباتهم عندما اختاروا أن يكون انتقال السلطة بالقوة؟.. أميركا غالباً مدعاة للسخرية، والصورة التي تعكسها عن نفسها تغلب عليها الفوضى، فهي مزيج من السذاجة والتحدي والصلف.. إن أوروبا التي اختارت لها موقع التابع الهزيل لأميركا، وهو دور تلعبه بلا بطولة ولا أمل يرتجى، تبدو اليوم أكثر من أي يوم مضى خارج اللعبة في الشرق الأدنى وفي العالم العربي- الإسلامي..».
بهذا الوضوح، وبهذه المكاشفة يتحدث رامبو عن الربيع العربي المزعوم، وعن الأدوار الخارجية كلها ابتداء من أميركا، وصولاً إلى أوروبا، مروراً بتركيا التي تريد استرجاع دورها الذي تخلت عنه بضعفها، وهزيمتها مطلع القرن الماضي، ولكن ضعف الوعي العربي، وتراجع دور المثقفين والمفكرين، وتهلهل البنى السياسية والسلطوية العربية أتاح لتركيا التي أنشأها العالم العربي لتلبي حاجاته أن تؤدي دورها المرسوم!
قسم الكاتب كتابه إلى أربعة أجزاء جاءت في أربعة عشر فصلاً متتابعاً، ويصعب على القارئ أن يعرض ما ورد في الكتاب ببساطة، لأن الكاتب لم يعرض لقضايا آنية أو إعلامية مباشرة، بل لجأ إلى الحليل المعمق، فبعد تعريفات بسيطة، خصّ فصلاً للحديث عن المال والنفط ودورهما، ثم تناول الأدوار المشبوهة الموكلة إلى بعض الدول والشخصيات، سواء كانت بدغدغة عواطف بعض الدول التي كانت ذات ماضٍ مثل تركيا، أم دول لا وزن لها في الخريطة، وزرع الغرب في ظنها من خلال الحركات الدينية الوهم بأنها ذات أهمية مثل قطر، ليصل إلى مفهوم المشروع الإسلاموي، وتناول العلاقة التاريخية المشكلة بين الأوروبيين والعرب والمسلمين، ليحدد بعدها مفهوم الإمبراطوريات بعد الحرب الباردة، والوصول إليها من خلال الفوضى الخلاقة، وبذلك يكون رامبو من الذين كشفوا أسباب الفوضى الخلاقة، ويقف بعدها عند الغرب وطبيعة تركيب المجتمع الغربي ومفهوماته، وما أباحه لنفسه، ليحلل العلاقة التي ربطت بين الإسلامويين والغرب، ليخص سورية والحرب عليها بحديث عن سورية وسلطتها وحزبها وإشكالياتها ومعارضاتها المتعددة، ومن ثم يقف عند مجريات الحرب في سورية، ثم يحدد مسار السياسة الدولية والإقليمية في إطار الشرق الأوسط الكبير. وقيام مفهوم تقسيم الإسلام إلى إسلامين وأكثر، ويسترعي الانتباه حديثه عن المجتمع الدولي وإخفاقاته، ثم وقوفه مع روسيا والصين ودوريهما فيما يجري على الأرض.. ويختم بالحديث عن طريق السلام وزواريب الحرب، ولا يقف الكاتب عند العالم العربي والإسلامي، بل يعرض لمجمل الحروب التي تجري في العالم.. هذا التكثيف لما يمكن أن يقدمه الكتاب ضروري جداً حتى لا يتم الاختصار والإخلال بالغاية العميقة من التأليف، والغاية النبيلة من الترجمة..
ولعل اقتباس بعض المعلومات من آراء رامبو تملك القدرة على كشف غاياته وأهمية ما يقدمه، فهو بهذا الكتاب يميط اللثام بأن ما يجري قد يكون، بل هو كذلك، من الصراع العالمي الكوني للهيمنة على المجتمع الدولي ومقدراته، ولننظر إلى ما يقوله، لنفهم المعطيات قبل أن نتناول مشكلاتنا بسطحية «يكاد النظام الأممي يفقد أنفاسه، وكل ما فعلته موجة الانتفاضات العربية هو أنها كشفت في وضح النهار أزمة الشرعية التي يعانيها منذ أن استولت عليه القوى الغربية بفضل التفجر الداخلي للاتحاد السوفييتي، وتحلل الكتلة الشيوعية..».
وعلينا أن نقف مطولاً عند هذا الاقتباس «في الديمقراطيات الكبيرة، يمكن للتضليل الإعلامي أن يستفيد من كفاءات عالية، لكن في الشارع العربي الذي ينظر إليه باحتقار ككتل من حشود لكائنات لا فقارية وقطعان غنم، لن يلقى هذا التضليل إلا نجاحاً نسبياً ومؤقتاً».
ومن خواتيم كتابه نقرأ «يبدو أن إسلاماً جديداً، إسلاماً أصولياً ومستبداً، وغير متسامح أسفر عن وجهه بمناسبة الثورات العربية، وهو إسلام نبع من فكر الإخوان المسلمين الذي راجعته وصححته الوهابية القاسية العنيفة، إسلام مصاب بجنون العظمة، عثماني جديد، إسلام سلفي يلهث وراء المال..».
يعد هذا الكتاب كما قال مقدمه مرجعاً من مراجع المرحلة الحالية، يغوص في الأسباب، ويحلل الواقع، ويرسم آفاق المستقبل، ويحتاج منا قراءة متأنية ودقيقة، شكراً لمؤلفه ومترجمته، لعلنا نقف من جديد على حدود الفهم.