عن الاتفاق النووي والرزانة الصينية.. هل أطفأَ الواقع بعض الرؤوس الحامية؟!
بقلم: فراس عزيز ديب
على العكسِ من مسار التصريحاتِ السياسية الحادة، بدأ هذا العالم الملتهب يشهد نوعاً من التهدئةِ على كل الجبهات، هل بدأ أصحاب الرؤوس الحامية بالعودةِ إلى رشدهم؟ هل صدق ما كنا نكرره بأن ساحات الحرب الملتهبة المفتوحة الآن كافية لرسم معالم السيطرة والنفوذ في الشق السياسي لأن ما من دولةٍ عظمى قادرة اليوم على تحملِ تبعات قرار الحرب؟
ربما تبدو بعض هذه الدعوات للتهدئة مثيرة للضحك، كأن يعرض الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون قبل زيارته القادمة إلى الجزائر التوسط لحل الخلافات بين المغرب والجزائر وإسبانيا، ربما على البعض تذكيره بأن حل الخلافات مع الفرنسيين في ملفات البطالة والاقتصاد والرعاية الاجتماعية أولى أليسَ كذلك؟ أي مكانة تمتلكها فرنسا اليوم حتى تلعب دوراً كهذا؟ ألم تقم الحرب الأوكرانية بتعريتهم؟
كذلك الأمر فإن الكثير من هذه الجبهات كانت فقاعات صوتية لا أكثر مثل إيران والسعودية ومن يلوذ بهما، أساساً كلتا الدولتين خارج مفهوم الصراع على النفوذ لأنهما يفتقدان مقوماته، مع ذلك بدا كلا الجانبين بحاجةٍ إلى اللحاق بركب التهدئة المطلوبة حيث أعلن المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الإيراني أبي الفضل عموئي أن الحوار بصدد إعادة العلاقات مع المملكة العربية السعودية يسير في الطريق الصحيح، هذه الخطوة لم تكن في اتجاهٍ واحد حيث إن التصريحات السعودية صبَّت بذات الاتجاه ما قد ينعكس على الملف الأهم أي الحرب على اليمن، حيث تحول هذا البلد إلى ساحةِ صراعٍ وحربٍ مفتوحة نتمنى إغلاقها بأسرع وقت.
لكن في المقابل بدأ الجانب الإيراني أحوج إلى هذهِ التهدئة تحديداً مع ارتفاع الحديث في الأوساط السياسية الأوروبية عن اقتراب التوقيع على الاتفاق النووي بصيغةٍ معدلة استثنت الكثير من مطالب كلا الجانبين، على سبيل المثال لم يتمكن الجانب الإيراني من انتزاعٍ الموافقة الأميركية على رفع تنظيم الحرس الثوري عن لوائح الإرهاب الأميركية، وهو ما كانت إيران تعتبره مطلباً لا رجعةَ عنه أما ما حُكي عن مطالب إيرانية بمحاسبة من خطط ونفذ عملية اغتيال قائد فيلق القدس «قاسم سليماني» الذي قتل في العراق، فهناك من اعتبرَ هذا المطلب نوعاً من الدعاية الإعلامية لا أكثر لأنه مطلب غير قابل للنقاش، هناك من ذهب أبعد من ذلك عندما اعتبر أن مسار هكذا محاكمة يجب أن يبدأ أولاً من إيران في إشارة إلى صراعٍ داخلي ساهم بتسهيل عملية الاغتيال التي نفذتها الولايات المتحدة الأميركية بأوامر من الرئيس السابق دونالد ترامب.
بذات السياق، لم تتمكن الدول الغربية من فرضِ شروطها فيما يتعلق ببرنامج الصواريخ الباليستية الإيرانية، حيث ما زال المفاوض الإيراني يعتبر هذا البرنامج خارج سياق التفاوض كما كان عند توقيع الاتفاق في عام 2015، الفشل الأوروبي جرى تبريره عبر اعتبار الأمر أقل من نجاح للجانب الإيراني وأقل من إخفاق للجانب الغربي، فكيف ذلك؟
شكَّل الفشل الإيراني المتكرر بإطلاق صورايخ تحمل أقماراً صناعية نحو الفضاء الخارجي مادة دسمة لطرحِ التساؤلات: هل إن هذا الفشل مرتبط بتكنولوجيا هذه الصناعات وافتقار الجانب الإيراني للخبرات الكافية؟ هذا الكلام لا يبدو منطقياً، تحديداً أن الجانب الإيراني رغم تصفية جهات خارجية للكثير من علمائه في مجالات شتى، إلا أنه تمكن من تحقيقِ قفزاتٍ علمية لا يمكن إنكارها قد تتجاوز بدقتها إرسال أقمارٍ صناعية نحو الفضاء، أو إن هناك جهة ما قادرة على تعطيلِ عمل هذه الصواريخ بطريقةٍ تجعل الرقابة عليها أسهلَ من إقحامها في دهاليز السياسة، هذه الفكرة قد تبدو منطقية تحديداً أن لا مبررات عملية حتى الآن لفشل عمليتي إطلاق للصاروخين «ذي الجناح» و«ظفر 1» التي قامت بهما إيران سابقاً، على هذا الأساس نبدو فعلياً وكأننا نشهد الساعات الأخيرة لما قبل نهاية مسلسل الاتفاق النووي، لكن ماذا عن باقي الجبهات؟
عادةً ما تلجأ الولايات المتحدة الأميركية إلى أسلوب التسويق الإعلامي لما تريد فعله سواء أكان في اتجاه الانخراط المباشر في صراعٍ ما أم الانسحاب بطريقة لا غالب ولا مغلوب، هذا الأسلوب تقوم بتسويقه إما عن طريق مراكز أبحاث متخصصة تعطي دراسات تتوافق مع القرار الأميركي المنتظر أو اللجوء لشخصياتٍ سياسية وفكرية خارج سياق الفريق الرسمي الأميركي يتحدثونَ بما تريد الإدارة الأميركية ومن بين هذه الشخصيات برزَ في الأشهر الماضية اسم وزير الخارجية الأسبق والأشهر هنري كيسنجر.
في الواقع لا يبدو كيسنجر الذي يقترب من عمر المئة عام قادراً على تحليل الوقائع للوصول إلى النصائح العقلانية للإدارة الأميركية، لكنه عادَ قبل أشهر إلى الواجهة عبر النصيحة التي وجهها للإدارة الأميركية بضرورةِ الأخذ بعين الاعتبار المخاوف الروسية من الجيوبوليتيك الحساس لأوكرانيا، بدا كلام كيسنجر وكأنه صيغَ في البنتاغون كرسالةٍ غير مباشرة للروس تلاها فعلياً رفض أميركي تسليم الجيش الأوكراني صواريخ بعيدة المدى خشية استخدامها في العمق الروسي! وتصريحات «ناتوية» رسمية عن حدود للتدخل في هذه الحرب لا تتجاوز الدعم العسكري المحدود، هذا السيناريو بدا وكأنه يتكرر اليوم عندما عاودت الإدارة الأميركية الاستعانة بتصريحاتٍ جديدة لكيسنجر وصفَ فيها زيارة رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي إلى تايوان الصينية بالزيارة «غير الحكيمة» معتبراً أن التوتر بين الولايات المتحدة والصين هو التحدي الأكبر بتاريخ البشرية، ألهذا الحد باتت الصين رقماً صعباً في الصراع على ضمان الأمن القومي الأميركي؟ ربما الجواب ودون تحفظ، نعم.
من الواضح أن هذه التصريحات «الكيسنجرية» هي اعتذار غير مباشر من الأميركي عن استفزاز الصين في تايوان، لكن ما هو واضح أيضاً أن القراءة الأميركية الخاطئة لتبعات هذا الاستفزاز تحتاج في تراجعاتها إلى الكثير من الواقعية، تحديداً أن التوتر مع الصين سيكون بشقه الأصعب اقتصادي أكثر منه سياسي، حرب سندات واتفاقيات نقل بضائع وتصنيع تقنيات أولية تدخل في الصناعات التكنولوجية يستفيد منها الطرفان، هذه الحرب فعلياً ستكون أقوى من أي حرب نووية هي صراع بين دولتين هما الأعظم اقتصادياً بلغَ حجم التبادل التجاري بينهما حتى نهاية نيسان الماضي أكثر من مئتين وخمسين مليار دولار، هل تكون انعكاسات هكذا معركة هي صورة مصغرة عن انعكاسات الحرب الروسية في أوكرانيا على الجانب الأوروبي؟
الأمر يبدو منطقياً فالجانب الأميركي لا يحتمل القتال على أكثر من جبهة اقتصادية قادرة أن تزعزع هذا الكيان فماذا ينتظرنا؟
يُقال إن زمن الحروب المباشرة تحديداً بين الدول الكبرى، قد ولى إلى غيرِ رجعة، لم تعد هناك أي دولةٍ من هذه الدول قادرة على تحمل هكذا تبعات تحديداً مع توافر شرطين أساسيين، وجود خيارات أخرى موجعة تمتلكها كل دولة تجاه الخصم، ووجود ساحات حرب مفتوحة هي أشبه بتصفيةِ حسابات دون تحمل أي خسائر مباشرة، على هذا الأساس نبدو فعلياً أمام عودة هذا العالم إلى رشده لكن تبقى المشكلة الأساس هي انعكاس تفاهمات سياسية كهذه على الساحات العسكرية، إلى متى ستبقى مفتوحة؟
لن يطولَ الجواب أبداً، التفاهمات بدت وكأنها جاهزة ولعلَّ أهم ما فيها أن أحداً لا يستطيع بعدها المزاودة على أحد.. ربما لن يطول الوقت!