عن العاطفة والموضوعية من كلينتون إلى رابين.. لا تخطئوا في فهم الدور الوظيفي لإسرائيل
بقلم: فراس عزيز ديب
عندما نقوم بمسحٍ عام لأداء الرؤساء الأميركيين السابقين، سنكتشف أن آخر الرؤساء المحترمين بما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط كان بيل كلينتون، الرجل كان جاداً بإيجاد حلٍّ للقضيةِ الفلسطينية، أما على الجهةِ السورية فقد كان يُكن احتراماً كبيراً للرئيــس الراحل حافــظ الأسـد لدرجــةٍ زارهُ فيهــا في دمشــق، وهنـاك فعلياً من تحدث عن اقتراب الحل في عهدهِ لما كان يتمتع بهِ من علاقة طيبة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين، وما حكي يومها عن «وديعةِ رابين» التي تُعيد الجولان السوري المحتل إلى السيادةِ السورية، لكن لماذا علينا استذكار هذهِ الأحداث؟
يقولون في الإعلام أن إسرائيل تواجه «تسونامياً ديبلوماسياً» سيزيد من عزتلها الدولية، هكذا عنونَت «الغارديان» البريطانية لتشرحَ ما يجري في المحافل الدولية ضدَ الكيان العنصري من إحالةِ ملف الانتهاكات بحق الفلسطينيين في الحرب الأخيرة على غزة إلى محكمةِ الجنايات الدولية مروراً بالحركات الطلابية التي تطورت إلى مُطالبات رسمية بقطعِ العلاقات التجارية وفرض عقوباتٍ على شخصياتٍ في الحكومة الإسرائيلية وصولاً إلى أروقةِ الأمم المتحدة في محاولةٍ مكررة للمرةِ العاشرة بهدفِ استصدارِ قرارٍ يعترفُ بدولةٍ فلسطينية قابلة للحياة، لكنَّ ما غابَ عن سطورِ الصحيفة هو أن تشرحَ لنا ماذا يساوي هذا التسونامي في سوقِ تصريف الضغوط ضد الكيان؟ بصراحة لا شيء!
ربما أن أصدقَ تعبيرٍ عن الآليةِ التي تتعاطى بها دولة الإجرام الصهيونية مع هذا «التسونامي السياسي» هو ما أقدمَ عليهِ مندوب الكيان الدائِم لدى الأمم المتحدة جِلعاد إردان عندما قامَ بتمزيقِ ميثاق الأمم المتحدة احتجاجاً على الدعوة للتصويتِ على عضويةٍ كاملةٍ لدولة فلسطين في الأمم المتحدة، كان يعرِف هو قبل غيره بأنهُ تصويت شكلي، أما المرور في مجلس الأمن فهو محكوم بالفيتو الأميركي، الرسالة الإسرائيلية هذهِ والتي تزامنت مع استخدام المندوب الإسرائيلي لألفاظٍ غير لائقة بحقِ مندوبي الدول الحاضرة، وصفَ التصويت بالعمل غير الأخلاقي! هل من سفالة أكبرَ من رؤية القاتل والمجرم يُحاضر بالعفةِ والأخلاق؟! هذهِ الطريقة في التعاطي قد تكفي لفهم الآلية التي تنظر فيها إسرائيل لأصدقائِها تحديداً المؤيدين لمنح فلسطين عضوية كاملة قبل خصومها الذين يطاردونها في المحافلِ الدولية، القضية لا تسونامي ولا حتى زوبعة، القضية ببساطة من أَمِنَ العِقاب.. صارَ صهيونياً.
لكن على المقلبِ الآخر هناك من يقدم وجهةَ نظرٍ مغايرة وبمعنى آخر: لماذا لا نرى بردّات الفعل غير المنضبطة تلك، صورة فعلية عن حالةِ اللاتوازن التي يعيشها الكيان، أليسَ من الممكن أن يكون هذا التسونامي وتجاهل الكيان لهُ هو نقطة البداية الفعلية لسقوط دولة الكيان؟
دائماً ما نركِّز على فكرةِ أن العواطف شيء والواقع شيء آخر تماماً، في العاطفة تستطيع وفقَ علم النفس أن تُنمي مهاراتك الوجدانية لتحقيقِ تعاطٍ أمثل مع عواطف الآخرين وخلق عالمك الخاص الذي لا تخترقهُ طائرات «إف 16»، ولا يقتل هدوءَ شواطئهِ ضجيج حاملةِ الطائرات الأميركية «جيرالد فورد»، هنا قد يصل معكَ الحال لابتداع السيناريو المستقبلي الخاص بكَ عبر دراما تختار أشخاصها بعناية، قد تستطيع وعلى طريقة الدراما السورية أن تهزمَ الفرنسيين للمرةِ الألف، لكنك ستستيقظ حكماً على صوتِ مواطنٍ يصرخُ في وجه بائع البقدونس وهو يسأله: ما علاقة سعر الدولار بالبقدونس؟ عندها ستكتشف بأن ما فعله الفرنسيون لا شيء أمام ما فعلته العصابات المتأسلمة، مع فارقٍ بسيط أنكَ مهما شتمتَ في حواراتك الدرامية الاحتلال الفرنسي لن يكترثَ إليكَ أحد، أما إن قلتَ بأن الكثير من بقايا التراث هو ما أوصلنا إلى هذه الحال عندها فقط عليك تحمل العواقب.
بالسياق ذاته تستطيع أن تبني عالمكَ الخاص على طريقةِ الدراما المصرية التي لا تزال تقدم لنا كل ما يدعم فكرة بأن مصر هي الوحيدة التي دافعت وتدافع عن القضايا العربية، حتى «بائعة الهوى» في فيلم السفارة في العمارة، رفضت دخول المبنى الذي يضم السفارة، لأن متطلبات العيش شيء والمبدأ شيء آخر تماماً، قد تُبكيك الدراما وهي تشعركَ بالفخر، لكنك قد تُصاب بالذهول مثلاً عندما تعرف عدد المصريين الذي تزوجوا من إسرائيليات لضمان فرص عملهم في الكيان الصهيوني، ستلعن كل ما هو وجداني وعاطفي عندما تعلم بأن معبر رفح كان مغلقاً لدرجةٍ حتى الكيان الصهيوني معها تبرأَ من إغلاقهِ إلى أن تصلَ فيكَ الواقعية لترى معه الدبابات الإسرائيلية وقد سيطرت على المعبر بل ورفعت العلم الإسرائيلي عل ساريتهِ، تُرى ألا يشعر «الأمن القومي المصري» بالخطر؟ هل سنسمع من أمين عام جامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط تهديداً بنشر عجلات المدرعات الإسرائيلية على طريقةِ تهديداتهِ عندما كان وزيراً لخارجيةِ مصر بتكسير أقدام الفلسطينيين إن تجاوزوا معبر رفح! أم إن العاطفة والواقع خطان متوازيان لا يلتقيان!
ختاماً، تستطيع أن تبني عالمكَ الخاص على طريقةِ الأهازيج الفلسطينية التي تُشعرك بأن رفع الراية في رام اللـه قابَ قوسين أو أدنى، وأن الكوفية الفلسطينية باتت الغطاء الذي يستظل به المقهورون في هذا العالم، لكنك ستستيقظ لتسأل عن أي راية تلك التي سنرفعها في رام الله؟ أليست الراية مرفوعة منذ توقيع اتفاقيات أوسلو وهناك من رفضها وبعدَ عقودٍ من مهاجمتها باتَ اليوم مستعد للقبول بها؟ ستقرأ تصريحاً لأحد الناطقين باسم حماس وما أكثرهم، يقول فيهِ: «نريد التهدئة وتحقيق صفقة تبادل حقيقية، لكن نتنياهو يريد استمرار الحرب لتحقيق أطماعه السياسية»، عذراً ولكن هل كنتَ تنتظر من مجرم أن يفوِّت فرصة كهذه للتشفي بالشعب الفلسطيني؟! أليست هذه التصريحات مناقضة لما كان يقوله المدعو إسماعيل هنية بعدَ أسابيع من بداية «طوفان الأقصى» بأنه «ممنوع بعد اليوم إفلات إسرائيل من العقاب إن هاجمت الفلسطينيين»؟ عندما نطلق تهديدات كهذه أليس من المنطقي أن نكونَ واثقين من امتلاكِ أدوات تحقيقها بالحد الأدنى؟
أنا هنا لا أوجه الكلام لجهةٍ أو دولةٍ بعينها أنا فقط أردت إعطاء ما يسمح بهِ حجم هذه الزاوية من أمثلةٍ عن التناقض المُميت والذي قد يؤدي إلى الانتحار بين العاطفة والواقع، مع ذلك هناك من لايزال يتمنَّع عن التعلم من الدروس ليعيدَ المغالطة ذاتها، لكن فكرته هذه المرة ليست مبنية على اعتبار أن الكيان مأزوم، بل يتعداها للاستشهاد بقرار الرئيس الأميركي جو بايدن بمنعِ تسليم الكيان الصهيوني قنابلَ هجومية استخدمها الكيان في الهجوم على قطاع غزة وأدت إلى ما أدت إليه من مجازر كعقابٍ لحكومةِ نتنياهو على رفضها وقف إطلاق النار والشروع بصفقةِ تبادل الأسرى.
من المؤلمِ فعلياً أن ترى بعدَ كل ما جرى ويجري في فلسطين المحتلة بأن هناك فعلياً من لايزال يرسم سيناريوهات كهذهِ مستنداً إلى خلافاتٍ بالإدارة الأميركية وحكومة العدو، علماً أننا وبالعودة للتصريحات الأميركية منذ اليوم الأول لطوفان الأقصى حتى اليوم قلنا: إن كل ما يُحكى عن خلافات هي مجرد تمديد للمهلة الأميركية المعطاة لبنيامين نتنياهو لممارسة المزيد من القتل والتهجير ليصبح القطاع خالياً من سكانه لتبدأ عودةَ من يسمح الكيان بعودتهم، أما أن يرى البعض بأن الصمود الفلسطيني أثمرَ خلافاً «أميركياً ـ إسرائيلياً» فلا أدري هل هذهِ العبارة هي تقزيم لمن ارتقى من ضحايا وكأنهم مجردَ أرقام، أم تقزيم لفكرة الصمود نفسها، تحديداً فإن معظم من قدموا قراءة على هذه الشاكلة كانوا كمن قرأ «لا تقربوا الصلاة» وتوقفوا، لأن كل التصريحات الأميركية ومن دون استثناء تدور في فلكٍ واحد: لن نسمح بسقوط إسرائيل حتى ولو سياسياً.
الأميركي وصلَ إلى الحد الذي يهدد فيه قضاة المحاكم الدولية أن ذهبوا بعيداً في إدانة الكيان الصهيوني وما زال هناك من يبني أحلاماً من رمل، عندما نريد تفنيد المواقف والبناء عليها لا يجوز لنا الأخذ بما يناسبنا فقط فماذا ينتظرنا؟
ببساطة يحتاج البعض إلى إعادة فهم المعنى الوظيفي للكيان الصهيوني في السياسة الأميركية قبل الشروع بتفنيد مواقف كهذه، النائب الجمهوري عن ولاية فلوريدا كوري ميلز تقدم بمقترحٍ لعزلِ الرئيس الأميركي جو بايدن بعد قراره تعليق شحنات الأسلحة لإسرائيل، ولكيلا نذهب بعيداً، تعالوا نعود من جديد إلى التاريخ، فرئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين انتهى الأمر بهِ بأن قُتلَ بسبب نزعتهِ «السلمية» تجاه العرب على يدِ متطرفٍ يهودي، أما كلينتون فجميعنا يعرِف ما جرَّته إليه فضيحة مونيكا لوينسكي، هذه الرسالة ليست فقط لمن يسيئون فهم العلاقة «الأميركية ـ الإسرائيلية» لكنها بالسياق ذاته رسالة لمن يحمِّل العرب مسؤولية ما يجري، دعكم من العواطف.
كاتب سوري مقيم في فرنسا