فضيحة إعلامية
عشية تهديد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما بقصف دمشق عام ٢٠١٤، حصل صحفي أوروبي (ليس مهماً تحديد هويته) على موعد في القصر الجمهوري بدمشق لإجراء لقاء صحفي مع سيادة الرئيس بشار الأسد، وفِي اليوم التالي خصصت صحيفته كامل صفحتها الأولى لصورة السيد الرئيس وأفردت النص الكامل للقاء على صفحتين، تماماً كما كان متفقاً عليه مع المكتب الإعلامي في رئاسة الجمهورية.
بعد توزيع الصحيفة على نطاق واسع، وبعد صدى كلام الرئيس الأسد عند المتلقي، من حيث المنطق والحجج وفضح ممارسات وسياسات الغرب، تلقى الصحفي عدة اتصالات، عدد كبير منها كان للتهنئة، وعدد آخر للإدانة التي مصدرها طبعاً من يسمون أنفسهم «معارضة» سورية في المغترب، لكن أهم الاتصالات كان من رئيس جمهورية بلاده، وبلهجة شديدة، سأله رئيس الدولة الأوروبية: كيف تسمح لنفسك بنشر حديث للرئيس السوري يهاجم فيه سياسة دولتك وتمنحه كل هذه المساحة؟ فأجاب الصحفي: نحن في دولة ديمقراطية ومن حق القارئ أن يستمع إلى كل الآراء ومن ثم يقرر ما الموقف الذي يجب أن يتخذه، ولا يحق لك حتى لو كنت رئيساً للدولة أن تخاطبني بهذه اللهجة وتؤنبني، غضب الرئيس الأوروبي وقدم شكوى بحق الصحفي إلى إدارة الصحيفة التي بمهنية عالية وقفت إلى جانب زميلها ولم تعر كلام رئيس الدولة أي انتباه، لا بل كافأت الصحفي على إنجازه.
هذه المقدمة بمناسبة رفض قناة إيطالية تقدمت بطلب وألحت عليه للحصول على إجراء حوار تلفزيوني مع السيد الرئيس بشار الأسد، وبعد أن حصلت على الموافقة وتم إجراء اللقاء والاتفاق على موعد البث، اعتذرت القناة «راي نيوز ٢٤» عن بثه، وهو أمر معيب ومخجل في عالم الصحافة، ويصل إلى مرتبة «الفضيحة الإعلامية»، وخاصة أن هناك عشرات الطلبات في رئاسة الجمهورية تنتظر موافقة الرئيس الأسد، لكون الحوار معه يشكل بالنسبة لأي صحفي سبقاً، وهناك تسابق حقيقي بين وسائل الإعلام الغربية المختلفة، منها قنوات تلفزيونية وصحف ومجلات وحتى إذاعات، لإجراء حوارات مع الرئيس بشار الأسد لما لهذه الحوارات من أثر في وسيلة الإعلام أولاً وفي الرأي العام الذي يتطلع لسماع الرواية المختلفة عن تلك التي يروجها ساسته.
وقد لا يعرف القارئ، أن في الغرب نوعين من الصحفيين، الأول يريد إجراء حوار خدمة لاسمه ولوسيلته وبشكل مهني لإيصال الحقيقة لجمهور واسع، والثاني يريد من خلال الحوار «إحراج»– إذا صح التعبير- الرئيس الأسد من خلال ما يعتقد أنها أسئلة جريئة لا بد أن تفضح «ممارسات النظام» ويصبح -أي الصحفي- البطل الذي تمكن من إحراج الرئيس بشار الأسد. وللأمانة ومن خلال مسيرتي الصحفية المتواضعة التي تمتد الآن على مدى ٢٥ عاماً، والعلاقات التي نسجتها مع العديد من الصحفيين العرب والغربيين، ومن النوعين، لا بد أن أشهد أمام القارئ، أن كل الصحفيين الذين أجروا لقاءات مع السيد الرئيس بشار الأسد خرجوا مذهولين من قدرة سيادته على الإجابة عن كل الأسئلة حتى الأكثر إحراجاً والتي كانت تشكل بالنسبة لسيادته فرصة لتوضيح حقائق عمل الغرب لسنوات على تشويهها، وهنا تكمن براعة الرئيس الأسد في تعامله مع الإعلام بشكل عام، فبعد استقبال الصحفي الضيف، أولى الجمل التي يقولها سيادته: بإمكانك أن تسأل ما تشاء، فليس لدي ما أخفيه.. وكم من صحفي حاول من خلال أسئلة أو صور أخرجها أمام سيادته وأمام الكاميرا معتقداً أنه سيحقق السبق الصحفي في إحراج الرئيس، إلا أنه أخفق لكون سورية لم يكن لديها يوماً ما تخشاه، ولكون السيد الرئيس هو المسؤول الأكثر شفافية في سورية والذي يطالب كل المسؤولين بأن يكونوا بدورهم في منتهى الصراحة في تعاملهم مع الإعلام.
ما أريد إيصاله أنه علينا ألا ننغش فيما يبث لنا من مفاهيم ومصطلحات حول الديمقراطيات الأوروبية، وحرية الإعلام والتعبير عن الرأي.
صحيح هي دول متقدمة عن كل ما لدينا في العالم العربي فيما يخص الإعلام وحريته، لكن حين يصل الأمر إلى كشف زيف سياسات وقرارات القادة الغربيين، وتبديدهم للمال العام من خلال دعم الإرهاب مالياً وعسكرياً، فيصبح تآمرهم ليس على سورية فحسب، بل على الرأي العام الذي أوصلهم إلى مواقعهم، فهنا ترسم الخطوط الحمراء، وكم من صحفي أجنبي زار سورية وعاد لينشر حقيقة ما رأى، فتعرض لمضايقات، وفي بعض الحالات إلى شتائم، لأن «واجبه» يقضي بأن ينشر فقط رواية الغرب وما يروجونه، وكل ما يخالف ذلك، يسجل في خانة «اللا موضوعية» كي لا يستخدموا كلمة «الخيانة»، ونحمد اللـه ونشكره أن هناك حول العالم صحفيين يعملون لإرضاء ضمائرهم أولاً، ويحترمون أصول المهنة التي تعهدوا أداءها بصدق وأمانة، رافضين الرضوخ ليس فقط للرواية الواحدة والأخبار التي تصلهم، بل رافضون لأي ضغوط تمارس عليهم حتى لو كانت من أعلى السلطات، لكون مهمتهم ومهنتهم هي البحث عن الحقيقة بعيداً عن أجندات لا تعنيهم أساساً، ولعل حادثة قناة «راي نيوز٢٤» خير مثال على السقوط المهني لوسائل إعلامية غربية عديدة، أثبتت طوال فترة الحرب على سورية أنها بعيدة كل البعد عن أخلاق المهنية وميثاق شرفها، وأنها رهينة بيد ساسة ولوبيات لديها أهداف ومصالح وتعتبر الإعلام ذراعاً تنفيذية لها، ويجب أن يكون باتجاه واحد فقط!
وأختم بحادثة موثقة جرت في دمشق في آذار ٢٠١١ حين كان سفير غربي يراقب عن قرب أولى التظاهرات التي خرجت في درعا، فأوفد مستشاره وسط المتظاهرين لينقل له المشهد، وحين كان جالساً في مكتبه يتابع قناة تلفزيون بلاده الإخبارية، قرأ خبراً عاجلاً عن قيام قوات الأمن السورية بفتح النار على المتظاهرين وسقوط عدد كبير من القتلى، فسارع إلى الهاتف ليطمئن على مستشاره، وحين رد المستشار سأله السفير: هل أنت بخير؟ فأجاب المستشار: نعم أنا بخير وكل الأمور على ما يرام، تعجب السفير وقال له: لكن الأخبار تفيد بأن هناك وابلاً من الرصاص باتجاه المتظاهرين، فأجاب المستشار مستغرباً الخبر، ليؤكد لسفيره أنه لم يسمع صوت رصاصة واحدة.
غضب السفير واتصل بمدير القناة نافياً حصول أي إطلاق للنار في درعا، فأجابه مدير المحطة: سعادة السفير نحن نعرف أكثر منك ما يحصل في درعا ولسنا بحاجة إلى معلومات منك!
هكذا صنع الإعلام الحرب على سورية، صحيح أننا خلال السنوات التسع الماضية حققت السياسة السورية خرقاً كبيراً في إعلامهم، وذلك من خلال عشرات اللقاءات التي منحها الرئيس بشار الأسد لوسائل إعلام غربية من اليابان إلى الولايات المتحدة الأميركية مروراً بدول أوروبية عديدة، وكان لها أثر كبير على الرأي العام الغربي الذي انقلب على قادته، لكن الحرب لا تزال مستمرة، قد يختلف الأسلوب لكن الهدف لا يزال واحداً: تشويه وشيطنة صورة سورية والسوريين عموماً.