قانون قيصر بين التهويل والحقيقة
مما لا شك فيه أن تشديد العقوبات المفروضة على أي دولة في العالم وفي أي توقيت كان وتحت أي ظرف يزيد الأمور تعقيداً، وخاصةً أن الولايات المتّحدة الأميركية تتحكم في النظام العالمي عبر العقوبات العابرة للحدود، والتي تعتبر أداةً من أدوات الهيمنة والتحكم الأميركيين في العالم، ومع دخول “قانون قيصر” حيّز التنفيذ في سورية بعد إقراره من قبل الكونغرس الأميركي قبل ستة أشهر، تزايدت المخاوف وبلغت حدّاً غير مسبوق، فهل لهذا القانون التأثير الذي يتناسب وحجم المخاوف، وما هي الحقيقة؟
التسخيف أو التهويل نقيضان لايمكن معهما التوصل إل مقاربة واقعية حقيقية للوضع العام, لذلك لا بد من الإشارة إلى أن العقوبات الجديدة والموسعة المفوضة على سورية وعلى الدول الحليفة اليوم, وعلى الرغم من شموليتها إلا أنها ليست بعقوبات جديدة, فالبلاد مرت منذ أوخر الستينات والسبعينات وبداية الثمانينات, وصولاً إلى العام 2011 بسلسلة من العقوبات الغربية والأميركية, كانت على الدوام مستهدفةً بها, وبغض النظر عن طرق الالتفاف على العقوبات والحصار, إلا أن الاستهداف كان على الدوام حاضراً, ولم تكن البلاد تتمتع بحرية الحركة المصرفية والتحويلات أسوةً بكل دول الجوار والعالم غير المستهدفة بالعقوبات الأميركية, التي تأتي على الدوام لإجبار الدولة المستهدفة على الخضوع للخيارات السياسية الأميركية في المنطقة والنطاق الجغرافيين للدولة المستهدفة, ومن هنا يمكن الاستنتاج أن العقوبات الأميركية على سورية ليست بجديدة, وهي أحادية, وليست عقوبات أممية على النمط الذي يجري الإشارة له في بعض التحليلات والمقارنة بين وضع العراق إبان العقوبات الأممية ووضع سورية, وبالتالي فهي غير ملزمة لكل دول العالم, وخاصة حلفاء سورية المعاقبون أساساً
أما فيما يخص سورية وقرارها الاستراتيجي والسيادي، فإن الدولة أعربت أكثر من مرة عن رفضها لمساهمة الدول التي ساهمت في الحرب المدمرة على سورية بعملية إعادة إعمار البلاد، وهذا الأمر كان متاحاً للدول الحليفة، فما الذي تغيّر اليوم؟ هذا لا يعني أن مشاركة الدول الأخرى غير الحليفة ممنوعة, لكن هذا لأمر مرهون بالتطبيع السياسي مع دمشق, وعند هذه النقطة يمكن القول إن قانون قيصر الأميركي موجّه قبل أي شيء, وفي ما يخص إعادة الإعمار, إلى الدول الحليفة للولايات المتّحدة في المنطقة وأوروبة, وليس إلى الدول الحليفة لسورية, وفي هذا السياق أشارت دراسة لمعهد واشنطن, وهو ذراع اللوبي الصهيوني في والولايات المتّحدة, إلى أن «روسيا تشجع الآخرين على تقبل بقاء (الرئيس) الأسد في الحكم، والترحيب به مجدداً في الحظيرة الدولية، وتمويل إعادة إعمار سورية. ويرفض قانون قيصر هذه الفرضية: وإذا تم تنفيذ سلطات العقوبات الجديدة بشكلٍ فعال، فيمكن أن تردع شركاء الولايات المتحدة حتى عن المشاركة في إعادة الإعمار، أو توسيع العلاقات مع سورية»، وهنا يمكن الاستنتاج أيضاً أن تأثر دعم سورية المالي والاقتصادي وفي ملف إعادة الإعمار، ليس أمراً موجوداً في ظل القانون الجديد، فالدول الحليفة لسورية هي خارج الاستهداف الحقيقي والواقعي للقانون، مع أنها ليست خارج الاستهداف الإعلامي.
العقوبات المفروضة على المصرف المركزي السوري وعلى الكيانات والأفراد ليست بالأمر الجديد على سورية فهناك 410 شخصيات سورية خاضعة للعقوبات, و111 شركة ومصرفاً على اللائحة الأميركية السوداء, كما أن «يخضع معظم هذا النشاط (المستهدف بقانون قيصر) أساساً للعقوبات بموجب سلسلة من الأوامر التنفيذية التي صدرت في عهد (الرئيس الأميركي الأسبق) أوباما، من بينها “الأمر التنفيذي رقم 13582” (2011)، التي جمدت أملاك الحكومة السورية، والكيانات التي تزودها بالدعم التكنولوجي أو المادي أو المالي، والكيانات التي تعمل لصالحها أو تتصرف نيابةً عنها» حسب معهد واشنطن.
المشكلة التي أثارها قانون قيصر وتفاعلاتها تتعلق حقيقةً بالأسباب التالية:
أولاً: ما رافق القانون من حملةٍ إعلاميةٍ وسياسيةٍ وقضائيةٍ وحقوقيةٍ لتسويقه إلى الرأي العام.
ثانياً: الأثر الذي تركه انتشار جائحة كورونا على النظام العالمي والاقتصادي الدولي.
ثالثاً: عودة التوتر في منطقة المتوسط وفي ليبيا على وجه الخصوص، وأيضاً في محيط سورية وأخص بالذكر لبنان والانهيار الاقتصادي الذي يعانيه وضياع مدخرات السوريين في البنوك اللبنانية.
رابعاً: حالة الهلع التي أثرتها الحملة الإعلامية، والإجراءات التي اتخذها الاحتلالان التركي والأميركي داخل سورية، ومحاولة صبغ الوضع في مناطق الاحتلال بالفدرالية، وفقدان الموارد من هاتين المنطقتين بشكلٍ شبه كامل.
خامساً، استراتيجية «الضغط الأقصى» الأميركية التي تهدف إلى تركيع إيران، وتقييد روسيا، والخلاف المتصاعد بين الصين والولايات المتّحدة.
سادساً، القصور الحكومي عن معالجة الملفات، والتباطؤ في اتخاذ القرارات المناسبة للتخفيف من أثر العقوبات، والتعامل برد الفعل مع الحدث الجديد، أدى إلى رفع منسوب القلق، وتعرض الاقتصاد لهزات فاجأت الرأي العام.
إن الهدف الرئيسي الآخر لقانون قيصر هو دفع الحكومة السورية إلى القبول بالأجندة الأميركية الغربية كاملةً، ودفع حلفاء سورية لخسارة الانعكاس الاستراتيجي الدولي والإقليمي لإنجازاتهم في الميدان السوري، فهل يمكن أن يمر هذا الأمر، استناداً إلى العوامل التي ذكرت سابقاً وعلى رأسها، الخلافات الروسية الأميركية، والخلافات الصينية الأميركية، والصراع الأميركي الإيراني، والصراع التركي الروسي في ليبيا، وأيضاً، محاولة تفتيت الدولة المركزية في سورية عبر خلق كيانات في شمال غرب وشمال شرق البلاد؟
إن إلزام الدول الكبرى وخاصةً الدول الحليفة لسورية للرضوخ للعقوبات التي تستهدفها قبل سورية, لا يبدو أنه خيارٌ واقعي, ولن تسمح هذه الدول للضغط الاقتصادي عالي المستوى, الذي تدركه جيداً وتعترف به, بإرغامها على خسارة منجزاتها, ومنطقة شرق المتوسط, وسورية على وجه الخصوص, هي أحد أهم مرتكزات الدول الكبرى التي تعمل على عالم متعدد الأقطاب, والأمر ليس بالسهولة التي يتوقعها صانع القرار في الولايات المتّحدة الأميركية, وعلى الرغم من أن مطالبة الولايات المتّحدة للدولة السورية بورقة تنازلات لرفع العقوبات ومنها «التعايش السلمي» والمقصود هنا الكيان الصهيوني, إلا أن مواقف حلفاء سورية, وفي مقدمتهم روسيا, وإيران التي استطاعت حماية سفن مساعداتها إلى فنزويلا, لا تبدو في وارد التراجع بمواجهة الضغط الأقصى الاقتصادي الأميركي.
هو التهويل بالقانون وأثره أكثر من حقيقة واقعة على الأرض وملموسة، وسورية هي حلقة في محور يعمل على كسر الهيمنة الأميركية، ربما يزداد الضغط، لكن العقوبات الأميركية لم تنجح يوماً في إرغام الدول على نسف قناعاتها وخياراتها ومبادئها، فحتى الآن، عجزت العقوبات التي تبنتها مجموعة أصدقاء سورية المتعددة الأطراف في عام 2011، والحكومة الأمريكية قبل سنوات، عن تغيير سلوك الدولة في سورية. وهذا في جزء منه مرده إلى الدعم متعدد المستويات من روسيا وإيران وحتى الصين، ومن غير المرجح أن تغيّر عقوبات قانون قيصر التزام هذ الدول بصمود سورية، كما أن روسيا وإيران وشبكاتهما المالية تخضعان أساساً لعقوبات واسعة بقيادة الولايات المتحدة.
عامر نعيم الياس