ماذا لو نجحت إيران؟
بقلم: وضاح عبد ربه
في رحلة البحث عن المعلومات، يجهد الصحفي في التواصل مع كبار المسؤولين السوريين لعل الحظ يحالفه ويكشفون له القليل مما يدور في كواليس السياسة، فينقلها بدوره إلى القارئ، أو يحتفظ بها لوقت لاحق، حين يصبح نشرها ضرورة توضّح أو تفسّر بعضاً مما يحصل حولنا.
في سورية وخلال السنوات الأولى للحرب، تفرغت القيادات السياسية والعسكرية لإدارة الحرب مع قرابة ثمانين دولة اتحدت لمواجهتها، وبعد أن خسر الغرب وأعوانه حربهم الإرهابية والعسكرية، لجؤوا إلى «الوفود السرية» والمفاوضات غير المعلنة وتقديم العروض لدمشق، انطلاقاً من مبدأ صريح وواضح أن ما عجزوا عن تحقيقه من خلال الإرهاب، وتدمير البنى التحتية السورية، قد يحققونه من خلال التقارب وتقديم الإغراءات السياسية والاقتصادية، شريطة أن تعدّل دمشق من «سلوكها»، وهذا ما كان يهدفون إليه منذ اليوم الأول لحربهم، واستثمار المليارات من الدولارات في «الهوشة»، كما وصفها رئيس وزراء ووزير خارجية قطر الأسبق حمد بن جاسم، وأخفقوا.
وبما أن دمشق لا تهوى «الزيارات السرية» ولا المفاوضات غير المعنلة، كان الرئيس بشار الأسد يصارح وفي كل مناسبة، شعبه بكل ما يجري في الكواليس، ويكشف عن الوفود التي تزور دمشق، وغاياتها، وهذه كانت سياسته منذ توليه مقاليد السلطة، فلم يكن لديه يوماً ما يخفيه عن شعبه، لأنه يؤمن بأن هذا الشعب هو الذي يقرر مصير ومستقبل سورية.
في اللقاءات مع المسؤولين السوريين ممن قابلوا هذه الوفود، وبعد إلحاح لمعرفة ما جرى في هذه الاجتماعات، يجيبون: إن الزيارات كانت متشابهة إلى حد كبير، على الرغم من اختلاف جنسيات أعضائها وتوجهاتهم وخلفية الأنظمة التي يمثلونها عربية كانت أم غربية، ويضيفون: كل الوفود كانت تبدأ بالحديث عن وجود عدة بنود يجب معالجتها لإعادة العلاقة مع دمشق إلى ما كانت عليه، وكان البند الأول في جميع اللقاءات «العلاقة مع إيران»، وقبل أن يكمل الوفد جملته، كان المسؤول السوري يقاطعه، ويطلب منه الانتقال مباشرة إلى البند الثاني، فلا جدوى من إضاعة الوقت في الحديث عن علاقة سورية بإيران، فهذه العلاقة ليست فقط علاقة أصدقاء وحلفاء، بل علاقة إستراتيجية ولا مجال لمناقشتها.
أغلبية الوفود كانت تتوقف عند هذا البند ولا تكمل مفاوضاتها، فهدف الزيارة كان أولاً وأخيراً «فك ارتباط دمشق بطهران»، أما ما تبقى من بنود، فكانت تجميلية ولا أهمية لها بالنسبة للغرب أو للعرب.
كل الوفود كانت تغادر دمشق، كما غادرها الوفد الأميركي صبيحة احتلال العراق حين قدم لائحة مطالب واشنطن فاصطدم بموقف الرئيس بشار الأسد الصلب الرافض لتقديم أي تنازلات.
في عام ٢٠١١ بدأت الحرب على سورية، ومليارات الدولارات صرفت من أجل إسقاط الدولة السورية، واستبدالها بدولة خاضعة تلبي طموحات واشنطن وحلفائها وعملائها، فتنكسر إيران ومعها حزب الله، وكل محور المقاومة، وبذلك تتحقق أحلام إسرائيل بالسيطرة المطلقة على دول المنطقة وأنظمتها، فيهرولون إليها بحثاً عن تطبيع أو استسلام مجاني يلغي قرارات الأمم المتحدة، ويشطب الحقوق ويسلم الأرض والعرض، إلا أن شجاعة الرئيس الأسد، وبسالة الجيش العربي السوري والتفاف الشعب السوري حول جيشه وقيادته، أفشلت مجدّداً مشاريع الغرب وطموحاته، وعام 2015 تدخلت القوات الجوية الروسية إلى جانب الجيش العربي السوري، فانقلبت المعادلات، وبدأ الغرب بحرب من نوع آخر، أكثر ألماً، وهي الحرب الاقتصادية التي نعيشها كل يوم الآن في سورية.
مناسبة هذا الكلام هو كل ما يشاع عن مفاوضات سرية هنا وصفقات هناك، وتسويات قادمة لا محالة، وما تروجه بعض الصحف والمواقع الإلكترونية الممولة من الخليج ودول أخرى، وما يحاول المواطن قراءته بين سطور تصريحات آتية إلينا من كل حدب وصوب، وذلك قبل أشهر قليلة من الاستحقاق الرئاسي السوري، وما يسببه من ضغوطات اقتصادية إضافية وحرب إعلامية وكلامية لا بد وأن نتصدى لها.
يبقى السؤال: لماذا لم تتخلَ دمشق عن حليفها الإيراني، وتقبل بكل ما عرض عليها خلال الحرب وقبلها؟
للسؤال عدة أجوبة، لكن الأكيد أن سورية كانت ولا تزال تؤمن بأن محور المقاومة هو المحور الأقوى في المنطقة، على الرغم من كل ما يتعرض له من نكسات اقتصادية وعقوبات وإجراءات أحادية الجانب، وأن هذا المحور هو الوحيد القادر على بناء توازن إستراتيجي في مواجهة إسرائيل، وقادر أيضاً على استعادة الحقوق كاملة إن كان من خلال الحرب أو السلام.
اليوم كل الأنظار تتجه نحو طهران، وما إذا كانت قادرة على استعادة اتفاقها النووي الذي ألغاه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، مستفيداً من أموال الخليج العربي التي تدفقت على إدارته لاستبدال العدو الإسرائيلي بـ«عدو» إيراني، وكان له ما أراد.
لكن ترامب خرج بفضيحة من البيت الأبيض، وواشنطن مشغولة بترميم ما دمره من علاقات مع أوروبا ومع الصين ومع دول في المنطقة مثل إيران وتركيا، وفي حال توصلت إيران إلى تسوية مع الولايات المتحدة، فهذا يعني أن المشروع الخليجي تجاه طهران لم يعد قائماً وأن مصالحة خليجية إيرانية لا بد وأن ترى النور، وهذا ما عرضته مسبقاً مشيخة قطر في محاولة للعب دور الوسيط بين الخليج وإيران، ما يعني أيضاً أن إيران لن تكون العدو «المفترض والمرغوب» للخليج، ولن تزور وفود سرية دمشق لتطلب فك الارتباط مع طهران، لا بل قد تزورها في محاولة للتقارب أكثر مع إيران، وهذا وحده ما قد يحدث فارقاً في العلاقات بين سورية ومحيطها العربي.
لذلك نقول: إن محور المقاومة، وبالرغم من كل العقوبات والأيام الصعبة التي نعيشها، هو الضامن الإستراتيجي لاستعادة الحقوق كاملة، فكما هو معروف، لا حرب من دون سورية ولا سلام من دون سورية، وكل ما ينشر من تصريحات وأكاذيب وشائعات هدفها كان ولا يزال اختراق هذا المحور، ودفع الدول والشعوب إلى الاستسلام بدلا من السلام.
ورداً على كل ما يشاع عن «مفاوضات سرية» أيضاً مع إسرائيل، الجواب: بكل تأكيد سورية تسعى للسلام، وسبق أن أجرت مفاوضات مع العدو الصهيوني عام ١٩٩١ وما بعدها، وتجددت عام ٢٠٠٨ من خلال الوسيط التركي، وفي كل مرة كان الشعب السوري مطّلعاً على أدق تفاصيل ما يحصل في الجولات التفاوضية، فكما ذكرنا سابقاً، دمشق ليس لديها ما تخفيه، وعندما تفاوض فهي تفعل ذلك من أجل استعادة الحق، ومن أجل أن ينعم كل سوري بالأمن والأمان والرخاء، وليس من أجل تقديم التنازلات.
أما إيران وحلف المقاومة، فربما من المفيد أن نذكر أن دمشق قرأت مبكراً الموقف العربي من قضية السلام والتطبيع مع إسرائيل التي بدأت عام ١٩٧٨، ولا تزال مستمرة حتى أيامنا هذه من خلال عمليات تطبيع مجانية لا تخدم أي قضية من قضايا الشعوب العربية، وكانت أول دولة عربية تقف مع الثورة الإسلامية في إيران، وتساندها، في حين كان كل العرب يقاتلونها، وفي عدوان تموز عام ٢٠٠٦، تأكدت سورية مما كانت تعرفه مسبقاً، بأن الأنظمة العربية كانت الشريك الأول لإسرائيل في مشروع تدمير المقاومة اللبنانية، وأخفقت نتيجة التحالف الصلب بين دمشق والمقاومة، والتي كشف بعضاً من تفاصيله الأمين العام لحزب اللـه السيد حسن نصر اللـه مطلع هذا العام في حوار تلفزيوني مع الزميلة «الميادين».
فِي الحرب على سورية، لم يختلف موقف بعض العرب كثيراً، بل كان مطابقاً لما حصل في حرب تموز، وكانوا شركاء في تدمير سورية ومحاولة عزلها وإسقاطها، ما يؤكد مجدداً أنهم ليسوا ولَم يكونوا يوماً دعاة سلام بل دعاة استسلام.
وبما أن دمشق لا تزال حتى يومنا تبحث عن سلام عادل يعيد الحقوق إلى أصحابها، وفي مقدمة هذه الحقوق الجولان المحتل، فقد كان خيارها التحالف مع الأقوياء الذين يؤمنون بالقانون الدولي وسيادة الدول واستقلالية قرارها، والقادرين على تشكيل ذاك التوازن العسكري القادر على إرغام إسرائيل على المضي في السلام العادل، فكان التحالف التاريخي مع إيران ومع روسيا التي بدورها تألمت من غطرسة الغرب في حرب العراق، وفي تدمير ليبيا، ومن مشاريعه التي لا تستهدف سورية فحسب، بل كل قوى المنطقة الرافضة للانصياع للسيد الأميركي وأذنابه وتهدد منظومة الأمن العالمي والتوازن الإستراتيجي، وبقيت موسكو ومعها بكين الضامنين للقانون الدولي ولحرية الشعوب في تقرير مصيرها.
اليوم لم يتبدل الموقف السوري بالرغم من الخسائر الكبيرة في الأرواح وفي الاقتصاد وفي البنى التحتية، فلا يزال كما هو، موقف رافض لأي تسويات أو صفقات على حساب الأرض والكرامة والحق، فهذه الحرب كما الحروب السابقة لا هدف لها سوى سلب الحقوق وإخضاع الشعوب، وعلى الرغم من الثمن الغالي جداً الذي يسدده السوريون كل يوم نتيجة الحرب العسكرية والاقتصادية والإعلامية، إلا أن هذه التكلفة تبقى أقل بكثير من تكلفة الاستسلام التي بات يروّج لها البعض، ربما لفقدان الصبر والآلام التي يعانون منها نتيجة تردي الأوضاع المعيشية، وفوقها جائحة «كورونا» وما تخلفه من انهيار اقتصادي في سورية وفي العالم، كل ذلك شكّل أعباء من الصعب تحملها، لكنها الحرب، وفي الحروب من الصعب أن ينجو أي منّا بلا خسائر ومعاناة وأحزان، حرب فُرضت علينا، ولم يكن هناك من خيار سوى الدفاع عن أرض سورية وهويتها وتاريخها وتقاليدها، وعلى الجميع أن يدرك أن معارك الحق هي من ينتصر في النهاية، وأن الحرب وبالرغم من قساوتها لابد أن تنتهي، فإسرائيل لا يمكن أن تنعم بسلام ما لم تعد الحقوق إلى أصحابها، وما زرعناه في الأمس ونزرعه اليوم، يستفيد منه أطفالنا وأحفادنا، كما استفدنا نحن ممن سبقونا في معارك الشرف التي قدموا فيها أغلى ما لديهم من أجل سورية قوية ومنيعة.
وفاءً لكل شهدائنا، سنبقى ندافع عن سورية إلى أن تعود كما كانت وأقوى مما كانت، وهذا أقل ما يمكن أن نقدمه احتراماً وتقديراً لدمائهم الطاهرة، ولنؤمن بأن النصر لا بد أن يكون حليف الحق، فقد تشتد المعركة، والحصار، لكن لا خيار أمامنا سوى الانتصار.