مكافحة الفساد.. بالرشوة
بقلم: رفعت إبراهيم البدوي
يعرف الفساد بالآفة المدمرة، أما القضاء عليها فهو واجب وطني وأخلاقي، بيد أن الفساد صار اليوم ثقافة رائجة ومتداولة، تعم معظم دول الوطن العربي، حتى إن مصطلح الفساد تم إفساده، ولم يعد صالحاً للتداول فاستبدل بمصطلح أكثر تطوراً وهو الشطارة.
الفاسدون الشطار هم كثر، ولا خوف عليهم لطالما ألبسوا عباءات الحماية من فاسد أكبر، يمتلك نفوذاً في السلطة، فترى الفاسدين يمارسون فسادهم على أوسع نطاق.
إن مبدأ المحاسبة على ارتكاب جرم الفساد أو نشر ثقافته، يكاد يكون معدوماً في معظم أوطاننا العربية، وإذا ما وجد مبدأ المحاسبة، ينتهي بمحاسبة الفاسد الخارج عن بيت الطاعة فقط، فيما الفاسد المطيع يبقى محمياً من أسياده وبعيداً عن المحاسبة.
ولطالما بقيت محاسبة الفاسد خارج إطار البحث عن مسببات الفساد، يبقى الفساد مشرعاً ويبقى الفاسد يمارس فساده وبأشكاله المتنوعة.
إن مكافحة الفساد لن تكون مجدية طالما بقيت أسبابه موجودة، لأن محاربة الفساد بحاجة إلى تحديث بعض القوانين وإعادة صياغتها، بطريقة تضمن لنا سد الثغرات التي ينفذ منها الفساد بشكل مقونن.
لا غلو بالقول إن مبدأ المحاسبة هو واجب وطني وأخلاقي، إلا أن مبدأ التسوية يبقى الغالب على مبدأ المحاسبة والعقاب، فالتسوية تعني الرشوة، والرشوة تعني إقصاء متعمد لدور القضاء، الأمر الذي يضمن انفلات الفاسد من المحاسبة، وهذا الأمر يكفل للفاسد الاستمرار بممارسة فساده ولو بطرق ملتوية، ولأن التسوية تعني الهروب من المحاسبة والقصاص، فإن التسوية غالباً ما تنتهي بمحاسبة الفاسد الأصغر لحماية الفاسد الأكبر.
إن الفساد في أوطاننا العربية أضحى عبارة عن ثقافة يتوارثها معظم المسؤولين، يمارسون الفساد عن سابق تصور وتصميم، خصوصاً بعدما صارت القناعة السائدة، بأن ممارسة الفساد أو السكوت عنه، بات من الشروط المطلوبة لفتح أبواب جنة الحكم، أو للوصول إلى مركز رسمي وبالتالي ضمان الحصانة.
الفساد في أوطاننا العربية، لا يقتصر على السرقة أو بتقبل الرشوة أو سوء الأمانة أو حصول تسيّب في الإدارة، إنما الفساد الحقيقي يكمن في الخروج عن الانتماء الوطني، أو التطبيع مع العدو الصهيوني، ما يعني فساد الضمير والفكر والثقافة، ما يسمح للفاسد بالسعي لنشر ثقافة الإفساد، عبر طرق ملتوية، فيغيب القضاء وتهدر حقوق الناس كما تهدر كراماتهم من دون وازع ولا رادع، وحينها يتحلل الفاسد من القيم والمبادئ الأخلاقية والوطنية ومن محاسبة الضمير.
إن الفساد هو المسبب الرئيسي لتراجع الانتماء الوطني، والفساد هو سبب تراجع الاهتمام بقضايانا العربية لاسيما وفلسطين المحتلة، والفساد سبب في تأخرنا عن اللحاق بركب التطور الاقتصادي والتكنولوجي والصناعي وحتى الزراعي، والفساد سبب إعاقة كل سبل الحصول على المعلومة، وسبب رئيسي في تشتت وتفتيت مجتمعاتنا، وسبب هروب وهجرة أدمغة أجيالنا المنتجة.
أجيالنا العربية أصابها اليأس وفقدان الأمل بمستقبل واعد، جراء الفساد المستشري في أروقة الدول العربية، وفي مفاصل الحكومات وحتى في مجتمعاتنا، حيث بات قرار التقدم والتطور في بلادنا العربية مرتبط بموافقة أميركية أو غربية، خصوصاً بعدما تحكموا بالغذاء والدواء والأموال إلى حد إفقار شعبنا ونهب ثروات بلادنا وإبقاء أجيالنا في حال من الاضطراب الذهني والنفسي والثقافي، وبالتالي إشغالنا بحروب مذهبية وطائفية أفقدتنا القدرة على الإفادة من قدراتنا وثرواتنا ما أصابنا بخسارة مضاعفة جراء هجرة قسرية لأجيالنا.
إن ثقافة الفساد والهدر المتبع في وطننا العربي بلغت مستويات مخيفة لا تهدد مستقبل أجيالنا فحسب، بل أضحت تهدد مستقبل وحدة أوطاننا وبتفتيت وتقسيم مجتمعاتنا العربية.
يبقى الاستثمار بالأموال العربية لإنشاء مراكز بحوث علمية متقدمة ضامنة لتطوير عقول ونستقبل أجيالنا المنتجة في مجال التقدم العلمي والصناعي والإلكتروني، أفضل بكثير من استثمار أموال العرب في المصارف الأميركية وهذا ما يضمن للفاسد الأميركي التفوق الدائم، فيما نحن العرب نضمن التخلف الدائم.
مما لا شك فيه بأن الفساد لا يجد مساحاته الواسعة، إلا وسط الحروب والفوضى المتنقلة، تماماً كما هو الوضع في الوطن العربي حيث الحروب العبثية تتلاطم في كل من سورية والعراق ولبنان وليبيا والسودان واليمن، ومعها وجد الفساد مساحات واسعة للاستثمار الرابح على حساب الوطن والمواطن في ظل الفوضى والتسيّب الذي يتحكم بدولنا.
المستثمرون بالفساد هم الرابحون، لأنهم يمتلكون المساحات الرحبة ويحظون بحماية كبار الفاسدين، أما المستثمر بالهوية العربية وبالمبادئ والقيم وبتماسك المجتمع فيجد نفسه الخاسر الأكبر، فالمجاهرة بالفساد صارت من البديهيات وبشكل فاضح، أما المجاهرة بالانتماء والالتزام بالمبادئ والقيم صار عبارة عن تخلف وجهل وافتقار لمبدأ الشطارة.
إن من يدعي صعوبة مكافحة الفساد وسط حرب ضروس فهو مخطئ، لأن الفساد يطيل أمد الحرب التخريبية على الوطن، ومن يدعي عدم وجود إمكانية لإقالة أو تغيير الضباط وسط المعركة فهو أيضاً مخطئ، لأن الضابط الفاسد أو الجبان غير الملتزم الدفاع عن المصلحة الوطنية، سيصيب جيش الوطن بالفساد وبالوهن، ومع مرور الوقت سيصعب علينا السيطرة عليه أو مكافحته.
إن الانتصار بالحرب العسكرية أمر هين، إذا ما قورن بالانتصار على حرب الفساد والمفسدين، فأولوية الانتصار على المؤامرة تكمن في قطع دابر الفساد والقضاء على آلياته وأساليبه، والعمل الدؤوب على سد الثغرات التي تسمح للفاسدين تنفيذ مآربهم، والتشدد بمبدأ محاسبة المسؤولين، مهما علا شأنهم، أولئك الذين باعوا الانتماء الوطني والضمير الإنساني وتاجروا بالبشر والحجر منتهزين فترة نشوب حرب تحت مسمى مكافحة الإرهاب، ليمارسوا إرهابهم وفسادهم على حساب المواطن الصامد المؤمن بوطنه.
إن محاسبة الفاسدين خلال الحرب وبعدها تحتل أولوية ضامنة للانتصار، لأن المحاسبة واجب وطني وإنساني وأخلاقي بامتياز، وبغياب المحاسبة، يتآكل الانتصار مهما كان عظيماً.
في عام 2005 اجتمع رئيس وزراء لبنان الأسبق سليم الحص مع عدد من خبراء مكافحة الفساد في الوطن العربي وذلك للبحث عن السبل الآيلة إلى كبحه، وتقدم الحص باقتراح إنشاء منظمة مرتبطة بالأمم المتحدة تعنى بمكافحة الفساد والرشوة أطلق عليها المنظمة العربية لمكافحة الفساد، واقترح بعض الأعضاء لندن كمركز رئيسي للمنظمة تفادياً للبيروقراطية المتبعة، إلا أن الحص أصر أن يكون المقر في العاصمة بيروت.
وبالفعل بوشر بالإجراءات القانونية، وكانت المفاجأة، صدور مرسوم قبول طلب المنظمة لمزاولة عملها فوراً وبسرعة قياسية.
تولى الحص رئاسة مجلس الإدارة ورئيس مجلس الأمناء بالمنظمة، وفي أول اجتماع لمجلس الأمناء، بادر الحضور بسؤال الحص عن سر سرعة الانتهاء من التراخيص المطلوبة وصدور مرسوم مزاولة العمل، رغم التعقيدات البيروقراطية؟
الحص وعلى سبيل الفكاهة وبسرعة بداهته جاوب الحضور «قمنا برشوتهم»، ضحك الأمناء وضحك الحص قائلاً: تخيلوا حالنا حين تغدو الرشوة ممراً إلزامياً لمكافحة الفساد.