مقالات وآراء

هيبة الدولة وقانون الجريمة الإلكترونية: دفاع عن الفشَل أم ترويض للآراء؟!

| فراس عزيز ديب

استيقظَ البعض على اقتراحِ تعديلٍ في القوانين، كِدنا نهنئ أنفسنا، قبل أن نكتشفَ بأن هذا الاستيقاظ هو لمناقشةِ تعديلَ قانون الجرائم الإلكترونية، مع ذلك قلنا لعلهم اكتشفوا في القانون ثغرات ما، لا تفيد مصلحة المواطن، لكن ما تم تسريبه يوحي بأنهم اكتشفوا الكثير من الثغرات التي تحمي حرية المواطن في إبداء الرأي.

ربما سيكون للسلطة التشريعية في بلد الياسمين رأي آخر من هكذا تعديلات، فالسلطة التي يجب أن تمثل خط الدفاع عن مصالح الشعب، عليها أن تدرك بأنها أمام مهمة ليست بالسهلة، لأن ما يتم اقتراحه في هذا الاتجاه لا يبدو بأنه يصب في الاتجاه الصحيح، فهل سيتحمل أعضاء مجلس الشعب هذه المسؤولية التاريخية؟

مبدئياً دعونا نتفق بأنه لا توجد دولة في العالم لم تسعَ لتطويرِ تشريعاتها بطريقةٍ تواكبُ الانفتاح الرقمي، بما فيها تعدد المساحات المفتوحة لإبداءِ الرأي، لكن هذهِ التشريعات جاءَت لتتعاطى مع الحدِّ الأعلى لحرية الكلام والنقد، وليس الحد الأعلى من التعابير التي تقيِّد هذه الحريات.

في سورية وتحديداً زمن الحرب نتفق بأننا بحاجة لهكذا قانون وتعديله بالطريقة التي تحمي المجتمع وكرامة الأشخاص، لكنه ببساطة أصبح عبارة عن وعاء ضخم يذهب فيه الصالح بالطالح، لا يمكن لعاقل أن يتغنى لأننا بفضل هذا القانون نجحنا بتوقيف أشخاص يبتزون الفتيات بعد الحصول على صورهنَّ من هواتفهنَّ، هذه ليست جريمة إلكترونية هذه جناية تدخل في نطاق الابتزاز والتعدي على الآخرين، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون في قانون واحد مع من كتبَ كلاماً عن وزير ما مثلاً!

بشكلٍ عام المشكلة ليست فقط في هذا القانون، المشكلة تبدو في أغلبية القوانين والتشريعات أنها تمتلك نقاط ضعفٍ نوجزهما بما يلي:

أولاً: الهرمية الدستورية

عندما ابتدع الفقيه القانوني هانز كيلسن هرمَ تسلسل القواعد القانونية التي تحكم النظام الاجتماعي وتحدِّد علاقة الدولة ككيان بالمواطن، وبغيرها من الدول، كانَ الهدف منعَ التعدي الذي ينزع عن تلك القيم القانونية قيمتها المقدسة، ترتفع قيمة هذه القواعد كلما ضاقَت بها أضلع الهرم ليقف في أعلى رأسهِ الدستور الذي يُعتبر الميزان الذي تُقاس بهِ كل الاتفاقيات الدولية والقوانين والمراسيم، إذ لا يمكن لأحدِ من هؤلاء أن يحتوي على ما يُخالف أو يتعارض مع أي مادة دستورية، عندها يصبح القانون ملغياً ما لم يتم تعديل المادة الدستورية وهذا صعب، كمثالٍ بسيط فإن الفقرة الأولى من المادة الثامنة عشرة في الدستور السوري تقول بصراحةٍ ووضوح: «لا تُفرض الضرائب والرسوم والتكاليف العامة إلا بقانون»؛ هذا يعني بأن المحافظ مثلاً أو رئيس المجلس البلدي لا يحق له اشتراعَ ضرائب جديدة أو تحصيلات مالية لا نصَّ فيها، لأنه أساساً لا يملك صلاحية إصدار القوانين، وفي حال تم ذلك فإنها لا يجب أن تلغى فحسب لأنها خالفت نصَّاً دستورياً، بل يجب أن تتم محاسبة مرتكبها على هذهِ المخالفة الدستورية، فالمادة الخامسة والثلاثون نصت بأن «على كل مواطن واجب احترام الدستور والقوانين»، المسؤول بالنهايةِ هوَ مواطن قبل أن يمتلك صفة وزير أو مدير، ترى هل تمت محاسبة أي وزير ارتكب مخالفة دستورية؟!

هنا نصل إلى المادة الثانية والأربعين من الدستور والتي تقول: «حرية الاعتقاد مصونة وفقاً للقانون»، و«لكل مواطن الحق في أن يعرب عن رأيه بحرية وعلنية بالقول أو الكتابة أو بوسائل التعبير كافة».

وفقاً لهذه المادة التي أعتبرها جوهرة التاج في هذا الدستور، فإن قوانين الدولة لا يجب فقط أن تحترم حرية المعتقد بل عليها أن تتيح وفق القانون كل السبل المتاحة للراغبين بتبديل ديانتهم بما في ذلك الأوراق الثبوتية، لأن أي منع عن هذا الحق تحت أي طائل أو تدخل من جهات لا تعجبها هكذا مادة، هو ببساطة انتهاك لمادة دستورية.

ثانياً: اللغة القانونية المغلقة

إن الفقرة الثانية من هذه المادة تحدثت عن حرية الرأي والكتابة والتعبير، من هنا يبدأ اللغط ويبدأ صراع لا يبدو بأنه سينتهي في القريب العاجل بين طرفين يشد كل منهما الحبل إلى طرفه: الجهة الأولى، هي المسؤول الذي يحاول استغلال أي فقرة أو كلمة أو حتى إيحاء يمكّنه من لجم المزيد من الأصوات الناقدة، على هذا الأساس تبدأ مشاكلنا بالتفسيرات القانونية لأن لغتنا القانونية ليسَت صارمة، الصرامة هنا تعني ديكتاتورية النص القانوني، الصرامة بأن تكون المادة القانونية مغلقة على أي تأويل يتيح للتعليمات التنفيذية التسربَ من بين حروفها لتطبيق ما تشاء لا كما يشاء المرسوم، عشرات المراسيم تم تفريغها من محتواها السامي لأنها تركت الباب مشرعَّاً على التأويلات لتتحول المادة القانونية إلى جائزة بيدِ من يطبقها، فبالقدر الذي نترك فيه المساحة الواسعة للتعابير القانونية، بالقدر الذي نحول فيه القانون إلى سيف وليس منظِّماً للعلاقة بين الدولة والمواطن أو بين المواطنين، وقانون الجرائم الإلكترونية لم يخرج عن هذا السياق، ودائماً نتحدث عن اللغة القانونية كمثال: ما هو مفهوم «الأخبار الكاذبة التي هدفها النيل من هيبة الدولة»؟

لندع جانباً فكرة الوحدة الوطنية، جميع السوريين الخائفين على بلدهم ليس لديهم خلاف على ذلك، بل ولو سألتني عن رأيي فأنا مع ملاحقة وسجن كل من يملك موقعاً إلكترونياً أو صفحة فيسبوكية يروج فيها لمذهبٍ ما، لأن هذا الترويج لا يمكن إلا بتكفير الآخر، لكن ما هو مفهوم هيبة الدولة التي تهددها الأخبار الكاذبة؟ مفهوم مطاط يتيح إلباس التهمة لمن لا يعجبنا كلامه، دون أن ننسى بدعةَ استدعاء الشخص للتحقيق مساءَ الخميس وتركهِ بذريعة وجود عطلة حتى صباح الأحد، فقط بهدف إذلاله نفسياً، طيب لو أخذنا القصة بالاتجاه المعاكس، المسؤول الذي ينفي اليوم خبرَ قرارٍ ما برفع أسعار هذه المادة، بل ويتهم كل من روج لذلك بأنها صفحات تدار من الخارج وتبدأ المعزوفة التخوينية ليصدر القرار حرفياً بعدَ أيام، ألا يسيء هذا الكلام لهيبة الدولة وفق منظوركم؟

دعونا نتفق بأنه من المعيب الظن بأن كلاماً فيسبوكياً سيؤثر في هيبةِ الدولة، مع هذه العقوبة التي تصل إلى ثماني سنوات من الحبس! في جميع دول العالم تبدو هيبة الدولة مرتبطة بمفهوم الأمن، واللافت بأن المواطن السوري فهم ذلك منذ عقود فيما لا يزال هناك من يسعى لتطويع مفهوم هيبة الدولة بما يخدم حمايته من النقد، فمثلاً قبل عقدٍ ونصف من الزمن قام بعض الأشرار بجرائمَ روعت مدينة حلب من قتلٍ وسرقة وصولاً إلى تحدي هيبة الدولة، يومها تحول كل مواطن في تلك المدينة إلى رجل أمن وشرطي وعسكري بهدف جمع ما يمكن من معلومات حتى تمَّ إلقاء القبض على تلك العصابة، وأخذوا قصاصهم العادل في ساحةِ باب الفرج، يومها لم يشرح أحد لهذا المواطن مفهوم هيبة الدولة، هو تحولَ إلى ما تحول إليه لأنه استشعر بأن هيبة الدولة من هيبته، أمن الدولة هو أمنه، مقاربة قد لا يفهمها من غرقَ في السعي لاختصار هيبة الدولة بانتقاد مسؤول، منذ متى كان المسؤول يمثل هيبة الدولة ما هذه النرجسية؟

الجهة الثانية، تتمثل بجزءٍ من المواطنين الذين لم يستطيعوا حتى الآن التمييز بين النقد وقول الرأي، بينَ الإهانة والاتهام. ربما كتبنا الكثير عن هذه الحالات لكنها للأسف لا تزال موجودة، بل إن من مساوئ وجودها هو تحول المسؤول الفاشل إلى بطل بسبب غباء البعض في التعاطي مع انتقاده، النقد أمر صحي لكن الشتم مثلاً يحولك لجانٍ، الطريقة الخاطئة في الدفاع عن الحق والمطلب العادل، يحول المخطئ إلى ضحية ويحولك ببساطةٍ إلى جانٍ، قل ما تشاء في النقد لكن تعاطى مع هذا المسؤول بما يتعلق بممارستهِ لمهامه، هنا نستطيع ببساطة أن نبني حالة صحية من الوعي التي تتيح للجميع قول ما يشاؤون، بل إن إدراكَ قيمة النقد يزيد الضغط على المسؤول الفاشل، ولعل تراكم هذا الوعي هو ما يدفع البعض اليوم للسعي لتعديل ما، يزيد من حجم التقييد.

في الخلاصة: هكذا قوانين لا تبشِّر بالخير، ولا تبشِّر بالمستقبل الذي دافع السوريون عنه، جميع دول العالم تتقدم للأمام خطوات في مجال الانفتاح وحرية الرأي وعدم التعرض للحريات العامة، فيما نحن مازلنا ندوِّر زوايا الكلمات لنربط أفكار المسؤول والتعرض لها بوهن عزيمة الأمة والتعرض لهيبة الدولة، ألا تشعرون بأنكم عن قصد أو دون قصد تسيئون لهيبة الدولة؟! لكي نكون أكثر واقعية فإننا اليوم أمام فرصة كبيرة لتعزيز ثقة المواطن بالسلطة التشريعية للدفاع عن حقوقِ المواطنين، بل وقد نكون أمام فرصة لنجرب خيارات ثانية في اشتراع القوانين المتعقلة بالحريات العامة، فمثلاً لماذا لا نستفتي الشعب مباشرةً على مثل هكذا قوانين تتداخل فيها مصالح السلطة التنفيذية بالسلطة التشريعية؟ دستورياً لاشيء يمنع والثقة كل الثقة بمن لا يضيع عنده حق.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock