واشنطن والديمقراطية!!
بقلم: وضاح عبد ربه
لا تريد الولايات المتحدة الأميركية أن تعترف – ولو بشكل غير رسمي- أن عصر «الأحادية» قد ولى، وأن العالم بات متعدد الأقطاب، وأن دولاً مثل الصين وروسيا باتت حقيقة راسخة على خريطة العالم السياسية، فهما تتمتعان بنفوذ واسع وعلاقات إستراتيجية تزعج وتزعزع سياسة الهيمنة الأميركية التي اعتادت عليها لعقود من الزمن، فما كان من واشنطن إلا إشهار «سلاح» الديمقراطية وحقوق الإنسان، وكأنها مؤهلة للحديث بهذا الشأن بعد أن قتلت بشكل مباشر أو غير مباشر ملايين البشر في مختلف أرجاء الكرة الأرضية، بدءاً من هيروشيما وناغاساكي مروراً بفيتنام ودول شرق آسيا ووصولاً إلى أفغانستان والعراق وسورية وليبيا واليمن وغيرها من الدول التي لم تنجُ يوماً من مشاريع البطش السياسية والاقتصادية.
والمثير للسخرية في حديث واشنطن عن الديمقراطية، هو أن أهم «حلفائها» و«شركائها» في منطقتنا وفي عموم العالم هم من أبشع الديكتاتوريات والأكثر قمعاً والتي لا تعترف أساساً بالإنسان ولا حقوقه!! ويشكلون هؤلاء شركاء واشنطن غير القابلين للنقد، أو حتى للعقوبات، ويتمتعون بحصانة في المحافل الدولية منعاً لأي إدانة قد تحرج هذه الشراكة مع الولايات المتحدة الأميركية!
في الواقع، وبالنسبة للصين تحديداً والهجوم الأميركي عليها، فإن أكثر ما يقلق واشنطن ويزعجها هو ذاك النموذج السياسي المختلف الذي تمارسه بكين والذي يأخذ في الاعتبار ويستفيد جداً من التجارب العسكرية الفاشلة للولايات المتحدة في حروبها العديدة، ومحاولاتها في التدخل السياسي المباشر على مدى العقود الماضية، ونظرة شعوب العالم إليها، وخاصة بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي واستحالة إخفاء الجرائم الأميركية التي باتت مكشوفة ومعروفة بالصوت والصورة والوثائق..
وهنا تكمن المفارقة المزعجة، حيث أن بكين وعلى نقيض واشنطن تنتهج سياسة احترام الشعوب وبناء علاقات إستراتيجية وندية، ومد يد العون من دون مقابل ودون مشاريع هيمنة واحتلال وعسكرة، وليس بالأقوال فقط، بل بالأفعال إن كان في الشرق الأوسط أو في إفريقيا أو أي بقعة في العالم من خلال مشاريع باتت واقعاً على الأرض.
فالصين لم ولن تهدد يوماً أي دولة في العالم، وسياستها «صفر مشاكل»، ولا تصدر عقوبات ولا تستخدم السلاح الاقتصادي لتهديد الشعوب أو معاقبتها، كما لا تستخدم أسلحة مثال «حقوق الإنسان» لإرهاب العالم وفرض هيمنتها.
لا تتدخل الصين في أي دولة لنهب ثرواتها، أو قتل مثقفيها وعلمائها، بل على العكس تماماً، فالسياسة الصينية مبنية على بناء علاقات تدعم الدول الفقيرة من دون أن تستغلها، وتبني علاقات مع الدول الغنية لدعم الصناعات الصينية ودعم الشعب الصيني من خلال فتح أسواق جديدة وترويج الصناعات الصينية التي أثبتت حضورها وتفوقها في كل دول العالم، ما جعل بكين تحتفل بالقضاء على الفقر الذي كان يعاني منه أغلبية الشعب الصيني.
بالنسبة لنا في سورية والشرق الأوسط فما تؤمن به بكين يتوافق مع تطلعات معظمنا، فالصين تعمل بحيث يكون الاستقرار في الشرق الأوسط أساسه السلام العادل والشامل والديناميكية والنمو الاقتصادي، وإيجاد فرص العمل، وبناء وتعزيز البنى التحتية، وتوفير التعليم والخدمات الصحية، وهذا فقط ما يمكن أن يساعد بلداننا على التطور ويمنع هجرة الكفاءات والعقول إلى الغرب أو دول الخليج، ويرسخ الأمن والاستقرار والوحدة الوطنية، ويؤمن كل مواطن في وطنه.
قامت الصين مع روسيا بمنع عشرات القرارات في مجلس الأمن التي كانت تهدف إلى تدمير سورية وشن حروب عسكرية عليها وفرض عقوبات أممية، وبقيت بكين وموسكو تشكلان العثرة في وجه الأطماع الأميركية ليس في سورية فحسب بل في العديد من الدول، فكانتا مصدر إزعاج للولايات المتحدة ولمشاريعها، ومن هنا بدأت الحملة على روسيا من خلال أوكرانيا والحملة على الصين من خلال محاولة زعزعة استقرارها ووحدتها وأمنها، وأخيراً من خلال إشهار سلاح «الديمقراطية» و«حقوق الإنسان» بعد أن فشلت سياسة العقوبات الاقتصادية والحد من تدفق البضائع الصينية إلى الأسواق الأميركية، وهذا نتيجة تفوق الصين الصناعي والتكنولوجي وحضورها في الأسواق العالمية وقوة اقتصادها الذي لم يعد ممكناً لواشنطن محاربته أو مجاراته.
إذاً وعلى عكس أسس السياسة الأميركية، فإن الهدف الحالي للصين يقوم على بناء «إستراتيجيات شراكة» مع دول الشرق الأوسط ومع إيران، ومنع تفاقم الخلافات والصراعات الداخلية والطائفية.
تتصرف الصين وهي مدركة أنها باتت قوة عظمى، تمنح نفسها مكانة دولية تحميها من أي تدخل خارجي في شؤونها الداخلية، وتنتهج سياسة متوازنة مبنية على احترام الشعوب وتحصينها لأنها مدركة أن الحروب العسكرية لا يمكن أن تبني أوطاناً ولا تحالفات، ولا توفر كذلك الهيمنة المرجوة، وأن السياسة الحقيقية هي تلك المبنية على الشراكة التي تأسس لنمو اقتصادي مستدام وتحد من الفقر وتدعم قضايا الشعوب، فتكتسب احترامها وودها، وتبعد شبح الحروب الذي أنهك البشرية.
محقة واشنطن أن تشعر بالقلق القادم من بكين ومن موسكو، لكن وكما يقال عامة «سقطت ورقة التوت» وباتت واشنطن عارية في سياستها الخارجية ولا جدوى من سلاح «الديمقراطية» وغيره من شعارات كلفت العالم حتى الآن ملايين القتلى وتدمير أوطان وتشريد وهجرة الملايين، وسيكون من الأجدى للولايات المتحدة أن تتخلى عن أحلامها وأوهامها في حكم العالم، وأن تكف عن الحروب السياسية والاقتصادية، وتمد يدها للدول العظمى وتعترف بتعدد الأقطاب، وهذا ربما لن يحصل لكونه مخالفاً لأسس ومبادئ الولايات المتحدة الأميركية المبنية على «العربدة» السياسية، لكنها تخطئ، لكون الدول العظمى لن تسكت ولن تسمح.